ثقافة

بكالوريا الفنون في الجزائر لم كل هذا اللغط؟

إبراهيم مشارة
في خطوة توصف بالجيدة على مسار الإصلاح والارتقاء بالمدرسة الجزائرية أقدمت وزارة التربية في الجزائر على استحداث شعبة جديدة في التعليم الثانوي العام والتكنولوجي دعتها “شعبة الفنون” بداية من السنة الدراسية 2022/2023 في قرار يحمل رقم 37 والمؤرخ في 14 أبريل 2022 وجاء في مقدمة القرار كديباجة تشرح حيثيات هذا الاستحداث “قصد تنمية وصقل مواهب التلاميذ وتطويرها وإكسابهم ثقافة تمكنهم من فهم الأبعاد الثقافية والتاريخية والجمالية للإبداعات الفنية وترقية البعد الفني وإعطائه مكانة في النظام التربوي الجزائري”
ويتوجه إلى هذه الشعبة بداية من السنة الثانية ثانوي من شعبة الآداب والعلوم التلاميذ الراغبون في الثقافة الفنية وأصحاب الميول الإبداعية في الفن عامة والمواهب والملكات الفنية لتسنمر الدراسة سنتين تتوج ببكالوريا الفنون في أربعة خيارات هي خيار موسيقى وخيار فنون تشكيلية وخيار مسرح وخيار سينما سمعي ،بصري على أن يدرس تلاميذ شعبة فنون مادتين فنيتين في كل خيار وتكون الدراسة في شكل نشاطات تعلمية نظرية وتطبيقية واستغلال الفضاءات والمرافق الثقافية التابعة لوزارة الثقافة.
ويؤطرهم أساتذة التعليم الثانوي وأساتذة مختصون في المجال الفني تابعون لمؤسسات التكوين تحت وصاية وزارة الثقافة والفنون ويختارون بناء على معايير الكفاءة والتأهيل كما سيستفيد أولئك التلاميذ من زيارة المعارض و حضور العروض الموسيقية.
تنطلق هذه التجربة في العاصمة فقط كتجربة أولى ثم تعمم على كثير من ولايات الوطن لاحقا بعد تقييم ودراسة ميدانية وسيستفيد التلاميذ القادمون من ولايات أخرى من النظام الداخلي.
وتنطلق عملية التعريف بالشعبة بداية من الشهر الحالي عبر إعداد وسائط دعم للتعريف بها وتنظيم حصص إعلامية لتحسيس التلاميذ والأولياء بأهمية هذه الشعبة و طرح استبيانات لاكتشاف المواهب والميولات الفنية على أن تسلم بطاقة الرغبات قبل 22ماي 2002 ،ووجهت المراسلة إلى مديريات التربية عبر ولايات الوطن وكذا المفتشين ومديري الثانويات ومديري مراكز التوجيه المدرسي والمهني للشروع في تنفيذ مضمون هذا المنشور الوزاري الحامل للرقم 618 الصادر عن ديوان وزير التربية الجزائرية.
وحين النظر في الحجم الساعي ومعاملات المواد يتبين مدى الانسجام المؤدي إلى تحقيق الأهداف المرجوة من إنشاء هذه الشعبة فالمعاملات في المواد المشتركة هي 02 وهي اللغة العربية والأمازيغية والعلوم الإسلامية واللغات الأجنبية والرياضيات والفيزياء بينما تكون المعاملات في المواد الفنية هي 05وهي التعبير التشكيلي والرسم وفن التصميم والنظريات الموسيقية وفن التمثيل وتقنيات السمعي البصري والثقافة السينمائية لتتناسب كذلك مع الأحجام الساعية بين ثلاث ساعات وساعتين في المواد المشتركة وخمس ساعات في المواد الفنية وهكذا يتم ترسيخ ثوابت الهوية الوطنية في عقل ووجدان التلاميذ من لغة عربية وأمازيغية وانفتاح على اللغات الأجنبية وتنمية الثقافة العلمية اللازمة ليتفرغ التلاميذ لتنمية ملكاتهم وميولهم الفنية ويتوسعون في هذه الثقافة الفنية كاختصاص.
غير أن الصادم هي ردود الأفعال عند شرائح كثيرة من الناس والغريب عند فئة من بعض المتعلمين والمربين فمن المفترض مباركة هذا التوجه والعمل على إنجاحه والابتهاج بترسيمه والمشاركة في توعية التلاميذ وأوليائهم وشرائح المجتمع المختلفة فما أحوج الأمة إلى الفن تصفو به النفوس وتتهذب الطباع وترتقي الأذواق وتتعدد ألوان المتعة الفنية التي يحققها الإبداع الفني والأمم المتحضرة هي أمم الفن أولا بعد أن يشبع العلم حاجتها من الاختراعات وآليات التحضر والتمدن تجدها تعطي للفنون المكانة اللائقة بها فتفتح المرافق الفنية والمؤسسات العلمية لتدريس الفنون وتدشين المعارض والمتاحف والمهرجانات الموسيقية والمسارح والعروض التمثيلية للكبار والصغار وفن الباليه والأمم المتخلفة هي التي تحارب مثل هذا التوجه وتصر على البقاء خارج الزمن والتاريخ والفعالية الحضارية.
وكعينات من ردود الأفعال عند فئة من بعض المربين والأساتذة منقولة من وسائل التواصل الاجتماعي والمدونات الشخصية والمنتديات التربوية هذه التعليقات والانطباعات على قرار الوزارة الخاص بإنشاء هذه الشعبة فكجواب على سؤال: ما هو الهدف من شعبة الفنون؟ جاء تعليق أحدهم: تفريخ المومسات على أساس أن الجامعة لا تكفي، أو يرد آخر امتداد التيار العلماني، أو يعلق آخر: قاموا بإلغاء شعبة العلوم الإسلامية والشعب التقنية واستحدثوا لنا شعبة الانحلال الخلقي ، أو تكتب إحداهن: التيار العلماني يفعل فعلته ، ويهيب أحدهم بالأساتذة والمربين: لا لبكالوريا الفنون في الجزائر، يجب أن تعود شعبة العلوم الإسلامية ، على المسلمين الغيورين أن ينكروا هذا المنكر أو يستعدوا لغضب الله ، أو يعلق أحدهم: حسبنا الله ونعم الوكيل.
وكأن يكتب آخر: الإسلام مستهدف بالقضاء على القيم الإسلامية أو يتهكم أحدهم : فشل الأساتذة في توجيه التلاميذ إلى المنحى الديني وفوز الهاتف الذكي في توجيه التلاميذ إلى المنحى الفني جعل الوزارة تستثمر في هذا المشروع لتخرج لنا عباقرة الفنون الذين سيعود نتاجهم على الاقتصاد الوطني بالربح الوافر ،أو يعلق أحدهم: نسأل الله العافية والسلامة: أو تخريب ما بقي من أخلاق في هذا الجيل، ربي يهديهم أو يأخذهم أو: التشجيع على جيل مختل لا هوية له ولا دين أو: تشجيع التفاهة والرداءة وضرب القيم الإسلامية أو: تدمير ما بقي من عقل شبابنا.
إلى آخر هذه التعليقات من فئة بعض المعلمين والمربين واللافت في هذه التعليقات عدم وجود
أي مبرر عقلي أو نتيجة علمية أو اعتراض منطقي مؤسس كالتساؤل مثلا عن جودة التأطير وكيفية متابعة المشوار في الجامعة وسوق الشغل مستقبلا وكيفية توسيع هذه التجربة في المناطق النائية والصعوبات الناتجة عن ذلك كسوء الفهم من قبل البعض والاعتراض غير المبرر نتيجة لثقل التاريخ والخلفيات الثقافية غير المؤسسة وغير العلمية وكيفية مساهمة الفتاة والتحاقها بهذه الشعبة في ضوء اعتراض بعض الأولياء مثلا إلى غير ذلك من الأسئلة العلمية المؤسسة بل اكتفى المعلقون بإبراز ذهنية التحريم كما يسميها صادق جلال العظم وخلفيات لاشعورية تظهر الكبت والحرمان والثقافة الذكورية واللجوء إلى الدين كتبرير لمحاربة هذه الشعبة والتعلق بمشجب الأخلاق وكل ذلك يظهر الفقر المعرفي والبؤس الثقافي والهامشية ونقص الفعالية العقلية والحضارية بل تظهر الهشاشة والكساح المعرفي والحضاري والعقد بمختلف أنواعها في معاداة الفن كشكل من أشكال التعبير الحضاري كما نعهده عند الأمم الراقية،غير أن هناك فئة باركت القرار وقدمت أسئلة موضوعية وتساؤلات منطقية مبررة في إطار الجدل الثقافي .
هل نسي بعض أولئك المعترضين والمعلقين على قرار الوزارة من فئة المربين والمعلمين أن الحضارة الإسلامية هي حضارة الفن كما يتجلى في بدائع الخط العربي الجميل والعمارة الإسلامية الخالدة وفي المقامات الموسيقية وفن المنمنمات وتجويد القرآن وطباعة المصحف الشريف وأن الحضارة الإسلامية في عهدها الزاهر جمعت بين الرقي العلمي والديني والأخلاقي والفني معا كما تحتفظ بذلك الشواهد الناطقة في غرناطة وقرطبة وطليطلة ودمشق وبغداد والقاهرة ومراكش وتونس بل إننا تخلفنا يوم عادينا الفنون بدعوى المحافظة وتخلينا عن العلم بمفهومه الكونتي ووقفنا عند الحدود التي رسمها الفقهاء بعد غلق باب الاجتهاد حتى نكبنا بالتخلف الذي فتح علينا أبواب جهنم في شكل هجمات الاستعمار في العصر الحديث.
هل نسي أولئك أن الفارابي الفيلسوف كان موسيقيا وأن أحد الفقهاء قال :”من لم يحركه العود فهو كالجلمود ” وأن ابن سينا والجاحظ والكندي وعمر الخيام كانوا أصحاب ميول فنية كما كانوا أصحاب عقول جبارة بهرت العالم بإنجازاتها الحضارية وأضافت منجزات معترف بها إلى الحضارة الإنسانية؟
إن التعلل بالدين والأخلاق في محاربة هذه الشعبة فشل عقلي وهروب حضاري وإنساني يكشف مدى تخلفنا وعطالتنا وورقة التوت التي نستر بها عورتنا لا تنجينا من مصير الاضمحلال والتلاشي أمام عصر العلم والفن والإبداع .
من المؤسف أننا نملك قصورا ثقافية ولكنها خاوية وليالينا في مدننا موحشة كمقبرة مهجورة بلا أنس ولا مسرح للكبار والصغار على السوية وبلا حفلات موسيقية ولا مسارح وعروض فنية بل إننا لا نملك إلا دورا قليلة للسينما مغلقة ولا ننتج فيلما على مدى عشر سنوات ولا نملك مجلة ثقافة محترمة تكون صورة البلد دوليا كما هو الشأن في العالم العربي ولم يكن هذا شأننا في السبعينيات والثمانينيات ومن يتجول في مدننا ليلا يصاب بالصدمة للسكون والخواء والفراغ كما يقول أدونيس وليس هذا شأن الأمم المتحضرة التي لها نصيب في الإسهام العلمي والحضاري والفني وهي تحتفي بالجميل والممتع والمدهش والخلاق .
إن هذه الاعتراضات والانطباعات من بعض أعضاء الأسرة التربوية ومن فئة عريضة من أبناء الشعب تظهر الكساح المعرفي والفقر الحضاري فماذا ينتظر الواحد أن يكون رد العامي إذا كان هذا هو موقف بعض المربين الذين ينتظر منهم الإسهام في إنجاح هذه الشعبة؟
إن التعلل بالدين والأخلاق هو ضرب للدين والأخلاق ذاتهما فنحن في الأساس مجتمع منخور داخليا تتعاوره الأمراض النفسية وأشكال العقد والمكبوتات واللوثات الأخلاقية من تفشي كل الأوبئة الأخلاقية ،فهل وفينا الطفل حقه في إشباع ميوله ورغباته ،وهل أعطينا المرأة حظها من الانطلاق والعطاء في إطار القيم الإسلامية ذاتها والثوابت الوطنية ؟
حاجتنا إلى العلم ماسة وحاجتنا إلى الدين لا نقاش فيها وحاجتنا إلى الفنون كبيرة كذلك وهذه هي الدعائم الحضارية الكبرى والمجتمعات التي تحارب الفنون هي مجتمعات قاصرة مختلة عرجاء لا ينتظر منها أي عطاء حضاري وهذا لم يكن شأن الأسلاف أيام بغداد وغرناطة والقاهرة ودمشق .
خطوة جادة وهادفة من وزارة التربية الجزائرية تستحق الدعم والتشجيع والمساهمة في إنجاحها على مسار التقويم والإصلاح واجب المربين والمثقفين للخروج من المأزق الحضاري والإنساني الذي نعيشه فنحن أحوج ما نكون إلى إبداع فني سواء أكان أغنية أم لوحة زيتية أم مسرحية أم فن الباليه جراء فقر حياتنا من كل فن جميل وممتع كما نحن بحاجة إلى علم بالمفهوم الكونتي ودين منفتح أساسه الأخلاق لا الشعائر لوحدها ،ومن واجب كل مثقف ومربي أن يدعم هذا التوجه ويسعى لإنجاحه فلطالما اتهمت المدرسة الجزائرية بأنها كانت مفرخة الأصولية ولطالما اتهمت العربية بأنها رجعية تشد إلى وراء وهاهي الفرصة مواتية لإثبات خطل هذا الرأي عبر تكامل تربوي يجمع بين العلم والدين والفن وهي الدعائم المؤسسة للحضارة الإنسانية.
خطوة تستحق الدعم والتشجيع من وزارة التربية والمرجو تعميمها مستقبلا بعد تأن في كامل ولايات الجمهورية.والحرص على الجودة والاحترافية والتفكير في سوق الشغل مع استغلال جاد وعقلاني لهياكل وزارة الثقافة والتربية والتوأمة مع الثانويات الفنية في العالم العربي والغربي فالتثاقف والتبادل والتناغم الحضاري والثقافي هو المخرج من المأزق الذي نعيشه.

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى