أحوال عربية

اوروبا ووكالة الغوث.. وتحديات الدعم المالي ( 1 ) معادلة السياسة والاقتصاد .. وسياسة الابتزاز

فتحي كليب
رغم الموقع السياسي والاقتصادي الهام الذي يحتله الكيان الاسرائيلي في الاستراتيجية الاوروبية، والذي يعود لاسباب تاريخية متعددة قادت الى تطور العلاقات السياسية والاقتصادية الاوروبية الاسرائيلية، وترجمت بعشرات الاتفاقات الاقتصادية التي جعلت من اسرائيل شريكا اقتصاديا اساسيا مع الاتحاد الاوروبي. الا ان القضية الفلسطينية تحتل موقعا متقدما في السياسة الخارجية للعديد من الدول الاوروبية التي ترتبط مع فلسطين وعدد من الدول العربية بعلاقات استراتيجية، انطلاقا من الدور التاريخي الذي لعبته اوروبا في المنطقة العربية وطبيعة المصالح السياسية والاقتصادية التي تربطها بعدد من دولها وشعوبها..
لسنا هنا في معرض تحليل الموقف السياسي لاوروبا، اطارا ودولا، ولا استعراض عديد المبادرات السياسية ومشاريع الحلول التي تبنتها اوروبا لحل الصراع العربي والفلسطيني الاسرائيلي بشكل اكثر توازنا من مواقف الولايات المتحدة ومبادراتها، وهي التي تعلن صراحة دعمها وتبنيها المطلق للمواقف الاسرائيلية وللجرائم التي ترتكب ضد الشعب الفلسطيني. فقد ترجمت اوروبا سياساتها باعتراف العديد من دولها بمنظمة التحرير الفلسطينية، وتصويتها على العديد من القرارات في مجلس الامن والجمعية العامة ومختلف المنظمات الدولية لصالح القضية الفلسطينية، وترك هامش بين مواقفها ومواقف الولايات المتحدة واسرائيل، خاصة تلك التي تعتقد انها لا تنسجم مع الحد الادنى من طموحات الشعب الفلسطيني بالتحرر من الاحتلال وقيام الدولة المستقلة السيدة وعاصمتها القدس وعودة اللاجئين، وذلك وفقا لعديد القرارات الصادرة عن الامم المتحدة.
ونظرا للموقع الذي باتت تحتله الولايات المتحدة كزعيمة للعالم الغربي وقيادة العالم بشكل آحادي، فقد اعتمدت اوروبا سياسة “مجاراة الحليف”، التي كان من نتائجها قرار مضمر للدول الاوروبية بعدم مواجهة الولايات المتحدة في الكثير من القضايا الدولية او بالحد الادنى اللجوء الى سياسة الصمت، واعتبارها الولايات المتحدة شريك اساسي في الامن الاوروبي، وهي التي ترتبط معها بعشرات الاتفاقات الامنية والعسكرية في مواجهة مخاطر وتحديات خارجية، وهو ما ترتب عليه استفراد الولايات المتحدة بادارة العديد من الملفات الدولية بما فيها ملف الصراع الفلسطيني والعربي الاسرائيلي، خاصة بعد انهيار الاتحاد السوفياتي والتحكم في مسار عملية المفاوضات مع اسرائيل التي قادت لاحقا الى التوقيع على اتفاق اوسلو، بعد ان قدم هذا الاتفاق الى الشعب الفلسطيني باعتباره خشبة الخلاص لرحلة معاناة متواصلة منذ العام 1948..
من الناحية النظرية، يعتبر الاتحاد الاوروبي شريكا اساسيا في دعم عملية التسوية وما يسمى “حل الدولتين”، لكن في ميدان الفعل المباشر، فان الولايات المتحدة هي التي ما زالت تدير دفة هذه العملية بطريقة منحازة لصالح اسرائيل وعدوانها، بل وتشجعها على المضي في سياساتها الدموية، وتوفر لها التغطية والحماية السياسية والعسكرية والمالية الكاملة. وفي المقابل، فقد كان لاوروبا دور هام في مجال دعم السلطة الفلسطينية اقتصاديا، حيث قدمت لها مساعدات مالية ضخمة ووقعت معها عدد من اتفاقيات التعاون الاقتصادي في العديد من المجالات.. لتصبح اوروبا الداعم الاقتصادي الاول للسلطة الفلسطينية، غير ان المآخذ على تلك المساعدات انها وجهت بطريقة مسيسة لتخدم عملية التسوية فقط، ولم يلمس حتى الآن انها ساهمت في خلق بنية قوية للاقتصاد الفلسطيني في المناطق التي تديرها السلطة الفلسطينية او انها هيأت لبناء اقتصاد فلسطيني مستقل، بسبب السياسات الاسرائيلية اولا، وثانيا بسبب عمليات الفساد والسياسات الزبائنية، والى خلق فئة اجتماعية تعيش حياة الثراء ومرتهنة في حياتها للمساعدات الخارجية، على حساب اغلبية الشعب التي ما زالت تئن تحت وطأة ازمات اقتصادية صعبة تترجمها ارقام البطالة المرتفعة وحالات الافقار المتزايدة..
ان هذه السياسة التي كانت تحصل امام اعين الدول المانحة بل وبتشجيع منها، في كثير من الاحيان، قادت الى اقتصاد فلسطيني بلا اية ملامح، ويبدو ان هذا هو الهدف الحقيقي من المساعدات الدولية التي ادت الى بروز اقتصاد مشوه، رغم المبالغ المالية الضخمة جدا التي انفقت في مناطق السلطة الفلسطينية، والتي بامكانها بناء اقتصاديات دول ناشئة وحديثة من الصفر، بل وجعلها دول تنافسية.. وبالتالي لا يمكن النظر الى المساعدات الاوروبية المقدمة للسلطة الفلسطينية الا باعتبارها جزءا من عملية سياسية يجب ان تتواصل، بغض النظر عن نتائجها، وهنا المأخذ الثاني على السياسة الاوروبية في تعاطيها مع ملف الصراع الفلسطيني الاسرائيلي، لجهة ممارسة الضغط المالي والاقتصادي على السلطة الفلسطينية لدفعها الى خيارات سياسية لا تنسجم ومصالح شعبها..
في القراءة الرقمية الاولى ووفقا لمنظمة التعاون الاقتصادي والتنمية الدولية، فقد انفقت الدول المانحة في الضفة الغربية وقطاع غزة بين اعوام 1993 و2016 نحو 35 مليار دولار امريكي، وهو رقم كبير جدا مقارنة بعدد السكان، ما يجعل المناطق الفلسطينية التي تشرف عليها السطة الفلسطينية من اكثر مناطق العالم تلقيا للمساعدات الاقتصادية من حيث نصيب الفرد الذي تجاوز، وفقا للارقام السابقة 550 دولار سنويا. وتصدر الاتحاد الاوروبي، كاطار، وست دول اوروبية (ألمانيا، بريطانيا، فرنسا، السويد، النرويج والدنمارك) صدارة المشهد (6.7 مليارات دولار) يليها الولايات المتحدة بـ (5.7 مليارات دولار) ثم السعودية بـ (3.83 مليارات دولار)، وتركز الدعم الاوروبي بخاصة على دعم موازنة السلطة التي تمتص الرواتب الجزء الاكبر منها..
ورغم ان المساعدات المالية الاوروبية للشعب الفلسطيني لم تكن مشروطة بتحقيق اهداف سياسية مباشرة، باستثناء مواصلة عملية التسوية والالتزام بالاتفاقيات الموقعة، فان العقد الاخير شهد ابتزازا واضحا من قبل عدد من الدول الاوروبية التي وضعت شروطا سياسية في اكثر من جانب من اجل استمرارها في تقديم مساعداتها المالية للسلطة الفلسطينية.. فبعد ان كان الدعم الدولي المخصص بقسم كبير منه للموازنة العامة قد تجاوز 1.2 مليار دولار سنويا في الفترة بين اعوام 2007 و 2012، وهي الفترة التي كثر الحديث فيها عن ما سمي “بناء مؤسسات الدولة”، انخفض هذا الرقم الى اقل من 200 مليون دولار خلال عام 2013. اما الاتحاد الاوروبي، كاطار، وبعد ان كانت مساهماته المالية قد وصلت الى نحو 6 مليارات يورو في الفترة بين اعوام 2000 و 2015، فقد انخفضت الى مستويات قليلة جدا في السنوات التي تلت..
اما على مستوى الدعم الاوروبي المقدم لوكالة الغوث، فهو ذات شقين: دعم مباشر من قبل الاتحاد الاوروبي كاطار، ودعم من خلال اتفاقات ثنائية بين الحكومات الاوروبية والوكالة، وهذا الدعم يعتبر جزءا من سياسة الدعم العامة التي اقرتها الدول الاوروبية للاجئين الفلسطينيين منذ بداية رحلة اللجوء عام 1948، حيث شكلت المساعدات الاقتصادية الجزء المكمل للسياسة الخارجية الاوروبية في تعاطيها مع تداعيات النكبة الفلسطينية، والتي يمكن تلخصيها بالتالي:
بعد ان تيقنت الدول الاوروبية عجزها وعجز المجتمع الدولي على فرض تطبيق قراراته خاصة القرار 194، الخاص بعودة اللاجئين الى ديارهم وممتلكاتهم، كان الحل الامثل، من وجهة نظر بعض الدول الاوروبية، توفير دعم اقتصادي للاونروا كونها تشكل عامل استقرار وصمام امان اجتماعي لجميع الاطراف. وهذا الدعم هو الذي سيضمن لاصحاب الحل السياسي وللدول المتبرعة مكاسب سياسية تفوق قيمة التضحيات المالية التي تقدمها للاجئين عبر الاونروا، التي دائما ما كانت منابرها تتحول الى ميادين صراع بين الاقطاب الدولية. وما يعزز مثل هذا الاستنتاج هو ما حمله نص القرار 302 بتأسيس وكالة الغوث، الذي ربط بين “تلافي احوال المجاعة والبؤس (للاجئين) ودعم الامن والسلام في المنطقة”. ولهذا نجد اشد الاطراف الدولية التي تتحدث عن الاستقرار وعن الامن والسلام في المنطقة، هي الاكثر حرصا ايضا على استمرار عمل وكالة الغوث.
ورغم ان الولايات المتحدة وبريطانيا هما من اقترحتا وعملتا على انشاء وكالة الغوث لأسباب سياسية لا علاقة لها بالتعاطف الانساني، نظرا لكون هاتين الدولتين تتحملان مسؤولية مباشرة في ولادة وتكريس مشكلة اللاجئين الفلسطينيين، ودعم اسرائيل وتشجيعها على رفض القرارات الدولية ذات الصلة بعودة اللاجئين الى ديارهم وممتلكاتهم التي هجروا منها في فلسطين عام 1948، نتيجة عمليات الارهاب والمجازر التي ارتكبت على يد العصابات الصهيونية، غير انه ومع مرور الزمن اصبح الاتحاد الاوروبي ينظر الى وكالة الغوث على انها عامل استقرار اجتماعي في المنطقة يجب دعم استمراريتها والحفاظ عليها وعلى خدماتها في وقت تعج المنطقة بالصراعات الاقليمية والدولية..
الاستنتاج الاخير عبر عنه المفوض العام للاونروا بيير كرينبول عام 2017 في شرحه لاوضاع اللاجئين الفلسطينيين امام لجنة المسائل السياسية الخاصة بتصفية وإنهاء الاستعمار في اللجنة الرابعة التابعة للأمم المتحدة خلال دورتها (71) حيث قال: “ان منطقة ﺍﻟﺸرﻕ ﺍﻷﻭسط ترزح تحت تأثير ﻧﺰﺍﻋﺎﺕ ﻣﺴﻠﺤﺔ متعددة ﺗترتب ﻋﻠﻴﻬﺎ ﻋﻮﺍقب ﻛﺎرثية من ﺍﻟﻨﺎﺣﻴﺔ ﺍﻹﻧﺴﺎﻧﻴﺔ ﻋﻠﻰ نطاق واسع لم يسبق ﻟﻪ ﻣﺜﻴﻞ منذ الحرب العالمية الثانية.. وبالتالي فان مخاطر تغذية نزعة التطرف لدى الشباب اليائس في المنطقة أصبحت هائلة، وينبغي للمجتمع الدولي أن يتخذ خطوات تكفل تقليص الشعور بانعدام الأمن لدى الفلسطينيين، كما ينبغي له أن يلتزم مجددا بالمساعدة على تلبية احتياجاتهم الإنمائية والإنسانية”.
ورغم ان الولايات المتحدة (كدولة) تعتبر الداعم الاكبر لموازنة وكالة الغوث، متقدمة بذلك على الدول الاوروبية، الا ان اوروبا، كدول واطار موحد على مستوى السوق الاوروبية المشتركة ثم الاتحاد الاوروبي بعد ذلك، احتلت المرتبة الاولى خلال العقدين الماضين. وتبرز المعطيات الرقمية ان الولايات المتحدة قدمت للموازنة الاجمالية للوكالة خلال الفترة بين 2008 و 2021 ما يزيد قليلا عن 3 مليار دولار امريكي، مقارنة مع اكثر من 7. مليار قدمها الاتحاد الاوروبي ودوله، كانت النسبة الاكبر منها خلال اعوام 2018، 2019 و 2020، وهي الفترة التي شهدت قطع المساهمة الامريكية خلال فترة الرئيس الامريكي السابق دونالد ترامب، والتي كانت من المفترض ان تتجاوز المليار دولار امريكي..
الاتحاد الاوروبي
2.2 425.6 2008
477.5 2009
391.6 2010
488.8 2011
453.4 2012
1.9
521.5 2013
481.6 2014
466.4 2015
468.8 2016
2.9 مليار دولار 451.1 2017
643.8 2018
585.2 2019
685 2020
541.5 2021
7. مليار دولار المجموع
الولايات المتحدة
977.9 مليون دولار 190.2 2008
67.2 2009
247.8 2010
239.4 2011
233.3 2012
1827 مليار دولار 294 2013
408.7 2014
380.5 2015
380.5 2016
364.2 2017
– 2018
– 2019
– 2020
338.4 338.4 2021
3. مليار دولار المجموع
ويبدو واضحا ان الولايات المتحدة تعطي الاولوية في التمويل لموازنة الطوارئ، التي لا تتكرر بالضرورة كل عام، وهي الى جانب موازنتي البرنامج العام والمشاريع تشكل الموازنة الاجمالية، فيما يركز الاتحاد الاوروبي على موازنة البرنامج العام التي تعتبر خدمات التعليم والصحة والاغاثة الاجتماعية جوهرها الاساسي. وفي عودة الى المعطيات الرقمية يتبين ان الولايات المتحدة قدمت لموازنة البرنامج العام خلال اعوام 2015، 2016 و 2017 حوالي 467 مليون دولار مقارنة مع نحو 337 مليون دولار من قبل الاتحاد الاوروبي، ويرتفع الرقم الاوروبي ليصل الى اكثر من 500 مليون دولار اذا ما احتسبنا ما قدمته الدول الاوروبية، كحكومات. اما في موازنة الطوارئ فتبدو الهوة كبيرة بين الجانبين، اذ بلغت تقديمات الولايات المتحدة خلال تلك الفترة نحو 597 مليون دولار مقارنة مع رقم اوروبي متواضع بلغ 41 مليون دولار..
جدول يبين قيمة المساهمات المالية بين الاتحاد الاوروبي (كاطار) والولايات المتحدة في موازنة البرنامج العام في الفترة بين اعوام 2015 و 2017 (بملايين الدولارات)
2015 2016 2017 المجموع
الولايات المتحدة 158. 152. 157. 467
الاتحاد الاوربي 111. 113. 113. 337
جدول يبين قيمة المساهمات المالية بين الاتحاد الاوروبي (كاطار) والولايات المتحدة في موازنة الطوارئ في الفترة بين اعوام 2015 و 2017 (بملايين الدولارات)
2015 2016 2017 المجموع
الولايات المتحدة 192. 207. 198. 597
الاتحاد الاوربي 11. 22.4 8 41
ويبدو واضحا لماذا تركز الولايات المتحدة على صندوق الطوارئ الذي يشمل بشكل اساسي تداعيات الازمة السورية والنداء الخاص بالاراضي الفلسطينية المحتلة، سواء تداعيات عمليات العدوان الاسرائيلي او حالات الفقر في الضفة وغزه، وهو ما يعطي التفسير عن سبب العجز الذي يعاني منه صندوق الطوارئ والذي عادة ما يتم تغذيته من اموال الصندوق العام المخصص لقضايا اخرى تتكرر كل عام، وهذا ما يفسر الاسباب الفعلية لاستمرار العجز في الموازنة الاجمالية والذي لا يعود فقط الى تخلف بعض الدول المانحة عن التزاماتها، بل الى طريقة التصرف بالاموال وتحويلها من قسم لأخر تحت ضغط الاحتياجات الانسانية المباشرة..
05 أيار 2022
يتبع بجزء ثان

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى