أحوال عربية

هل ستكون كوردستان بديل تركيا وإيران

د. محمود عباس

معادلة قد يراها البعض شبه مستحيلة حدوثها، دولة مزقتها مصالح القوى الكبرى؛ محتلة من أربع قوى إقليمية مصالحها متشابكة وبعمق مع العالم. دولة لا تزال في حكم العدم مقارنة بتركيا؛ الدولة الثامنة عشرة عالميا، من حيث الاقتصاد، وإحدى أقوى الدول عسكريا، ركيزة الناتو من حيث تأمين الجنود، وعلاقاتها مع أمريكا وروسيا وأوروبا تعد بمليارات الدولارات، لها ثقلها في العالمين السني وبين دول العرق الأصفر التركي، وهي وريثة الإمبراطورية العثمانية. ومثلها إيران التي رغم كل القيود تتحكم بمصير عدة دول إقليمية، حليفة روسيا، وريثة الإمبراطورية الصفوية، التي انهارت مثل العثمانية وظهرت الدول الحاضرة على أنقاضهما في المنطقة، ومن حينها لم تقف الصراعات على الحدود الجغرافية السياسية، خاصة بعد التغيرات المتتالية طوال الربع الأول من القرن الماضي، واليوم نحن أمام ذكرى مرور المائة عام على البناء العبثي للمنطقة.

مع ذلك وفيما لو تتبعنا التطورات التي حصلت لجغرافية العالم السياسية؛ سنلاحظ بأن التغيرات التي قسمت الشعوب، على خلفية القوميات أو المذاهب والأديان، وبعضها حسب مصالح قوى سياسية والإمبراطوريات، هي من صلب التطور البشري، منها كانت من مرتكزات الحضارات. والموجود الجغرافي السياسي الثابت اليوم، في بعض المناطق من العالم، كالشرق الأوسط، تتناقض والمسيرة التاريخية، وترجح احتمالات تغيير ما رسم في بداية هذا القرن.

فما تقدم عليه تركيا وإيران وبعض الدول العربية، محاولات للحفاظ على ما بنيت من الجغرافيات السياسية حسب مصالح بريطانيا وفرنسا في القرن الماضي، وبدأت اليوم تلك التركيبة بأنظمتها وتوجهاتها تتعارض ومصالح القوى الكبرى المتحكمة بالعالم، لا نتحدث فقط عن أمريكا وروسيا والصين وأوروبا، بل عن إمبراطوريات الدول العميقة والتي تدير اقتصاد العالم وتخلق الحروب والسلام حسب مصالحها، ومنها الشركات التي ظهرت حديثا؛ وتتحكم بأسواق المال، والصرف وظهور العملات الإلكترونية؛ والتجارة العالمية؛ وانهيار العملات وصعودها، والتضخم، وأسعار الطاقة، والإنترنيت؛ الشركات التي بدأت تغزو الفضاء، لتحكم العالم من هناك، بدءً من خدمات الإنترنيت والكهرباء والنقل إلى تسيير مسارات الحروب وغيرها.

تركيا، ومثلها إيران وسوريا والعراق، الدول المعنية في مقالنا هذا، والتي خرجت من رحم إمبراطوريتين هيمنوا قرابة ستة قرون على قرابة ربع العالم، تكونت على خلفية الصراع بين القوى الاستعمارية، ما بين مصلحة الإتحاد السوفيتي وفيما بعد فرنسا والتي تطلبت خسارة بريطانيا في معركة قونية وحول استانبول وعلى أطراف الدردنيل، وتكوين تركيا الحديثة، ومثلها إيران والدول الأخرى، إلى حيث مصالح أمريكا والإتحاد السوفيتي والحرب الباردة.

لكن التكوين كان قد تم على بنية غارقة في التناقضات القومية والدينية والمذهبية، ولذلك وطوال القرن الماضي لم تتمكن الدول المعنية من إزالة التآكل الداخلي، وتكوين أنظمة ديمقراطية، وتفاقمت مع الزمن حقوق الإنسان فيهم، وتوسعت المنهجية العنصري بين شعوبهم. وللتغطية على هذه العلل المستدامة، تحاول تعويم منهجية البعد الوطني، ودولة المواطنة، مضيفة عليها معارضتها لمصالح الأقطاب العظمى، ومنها، كتركيا وإيران، تظهر ذاتها كقطب منافس لروسيا في بعض المناطق ولأمريكا في مناطق أخرى، وعلى خلفية التغاضي عن أمراضها الداخلية، توسع الشرخ بين مصالحها ومصالح القوتين، إلى درجة التضارب، وتحاول تناسي الحقائق، وتمليها على الظروف، لكن مصالح القوى العظمى لا تغفر، وعندما تبلغ انهيار مصالحها المرحلة الحرجة، ستنهار هذه الدول كما انهارت في السابق الأنظمة والإمبراطوريات، وتغيرت الجغرافيات ليس فقط في الشرق الأوسط، بل وفي أوروبا، وبالتالي فالدول المحتلة لكوردستان المبنية على عدة قوميات، وذات البنى الاقتصادية الرخوة كتركيا، من حيث الطاقة والخامات الصناعية الأولية، من السهل إيجاد بديلها كما وجدوا بديل الإمبراطورية العثمانية والصفوية قبل قرن من الزمن.

ويطرح السؤال ذاته: هل ستتفتت الجغرافية السياسية للمنطقة؟ وفي مقدمتهم تركيا وإيران والعراق وسوريا، ولبنان، الدول الغارقة في التآكل الداخلي، والصراعات المذهبية والقومية، وهل ستظهر كوردستان على أنقاضها؟ أو هل مصالح الشركات العالمية العملاقة، أو الدول الكبرى وخاصة أمريكا تتطلب تحرير كوردستان، وتكوينها كدولة حامية لمصالحها في المنطقة؟

بدراسة لواقع المنطقة، يلاحظ أنه هناك توجه، وبحث عن قوة ديموغرافية بجغرافية قادرة على دعم استراتيجيتها في المنطقة، وموضع ثقة، وهنا فالقوة الكوردية بجغرافيتها الواسعة، وإمكانياتها الاقتصادية الضخمة، تعتبر الأكثر ترجيحا لتكون البديل، ولا شك عملية التغيير وخلق الجديد سيؤدي إلى إعادة النظر في مجمل المصالح، وبالتالي المسيرة تحتاج إلى العديد من الشروط الداخلية والخارجية، مثلما تتطلب من القوى الكوردية إثبات ذاتها وتبيان قدراتها على تحمل المسؤولية، وتبين إمكانياتها على تكوين الدولة وإدارتها.

فمن الملاحظ وفي هذه المرحلة، إنه كلما صعدت تركيا من عدائها للكورد، ازدادت مواجهتها للمصالح الأمريكية في المنطقة، وهو ما يدفع بأردوغان تكرار تصريحاته على أن تركيا تطلب من أمريكا قطع العلاقة مع قوات قسد، والإدارة الذاتية، وإيران تحارب الحضور الأمريكي في جنوب كوردستان. وعندما تحافظ الأولى على أمنها وتحارب قوات الـ ي ب ك وقسد، لا تأخذ أوامرها من أية قوة كبرى، وأن تركيا لم تعد الدولة التي كانت تتقبل الإملاءات، بل تفرض شروطها للحفاظ على مصالحها، وهذه المعادلة هي من لب الخلاف بينها وبين أمريكا والناتو، وكلك بينها وبين روسيا حتى ولو أنها لا تظهر اليوم على خلفية تقاطع المصالح.

وعلى الأغلب أن تسمية الكورد باسمهم من قبل وزير خارجية أمريكا (أنتوني بلينكن) حول الجريمة التي جرت في باريس من قبل أحد العنصريين الفرنسيين، مقابل الصمت أمام حوادث أفظع تم في الماضي، كجريمة اغتيال المرحوم الدكتور عبد الرحمن قاسملو وأصدقائه، ومحاولات اغتيال السيد الرئيس مسعود برزاني في أوروبا، وما تم للسيد عبد الله أوجلان، وغيرها من الحوادث، اعتراف مباشر، حديث العهد، بخصوصيتهم كشعب لهم استقلاليتهم، إلى جانب ما صرح به وزير خارجية فرنسا على أنه عمل إرهابي خارجي، يدرجان كرسالة للعديد من الجهات، وتبيان للتحالف الجاري بين القوى الكوردية والمصالح الأمريكية في المنطقة، ولا يستبعد أن تكون هذه بادرة دبلوماسية على أن أمريكا ترى أن احتضان القوى الكوردية ترسيخ لمصالحها في المنطقة.

لقد حان الوقت أن يدرك الحراك الكوردي بكل أطرافه، وخاصة قوى الإدارة الذاتية، أن مصالح أمريكا في هذه المرحلة تتطلب زيادة الدعم لقوات قسد، حتى ولو كانت تحت غطاء محاربة داعش، والتي هي في عمقها تدرج ضمن حلقات صراعها الاستراتيجي مع روسيا والصين على منطقة الشرق الأوسط، قد تكون من مصلحتها الإقدام على الاعتراف السياسي بالإدارة الذاتية، وقد تقدم على الحظر الجوي فوق جغرافية غربي كوردستان، لكن إقامة كيان أممي وعلى خلاف مع القوى الكوردية، وغياب البعد القومي، وعدم التوجه لبناء فيدرالية كوردستانية، لا تندرج في كلية الإستراتيجية الأمريكية في المنطقة، وبالتالي، أي انحراف عن المنهجية الكوردستانية ستؤدي إلى ظهور تعارض مع مصالح أمريكا، لذا فما تحصل عليه اليوم الإدارة الذاتية وقوات قسد مرحلة تحتاج إليها أمريكا لكنها وبغياب المنهجية الكوردستانية لا تخدم عمقها الإستراتيجي في مواجهة روسيا والصين.

الجميع يدرك أن التآكل الداخلي الكوردستاني، مثلما هي في جنوب كوردستان، والتحالفات الحزبية المتضاربة مع القوى الإقليمية، أو لنقل تقبل الذات كأدوات لهم، لا تختلف عما تتجه إليه منهجية الإدارة الذاتية في إقامة كيان أممي، ومجتمع بمفاهيم طوباوية تعادي منهجية السياسة الأمريكية المعادية لأية مفاهيم اشتراكية أو نظريات أممية متماهية مع النظرية الشيوعية، ستؤدي إلى تكرار ما تم في بدايات القرن الماضي وحيث معاهدة سايكس-بيكو، وتفضيل مصالح دولهم والتي رست على دعم القوى التي تحتل كوردستان اليوم، وتم التخلي عن كوردستان.

لا شك هذه المعادلة معروفة من قبل تركيا وإيران والدول الأخرى المتربصة بالقضية الكوردستانية، لذلك فهي تتحرك دبلوماسيا وتتحالف سياسيا وعسكريا، ضد القوى الكوردستانية عامة وليس فقط ضد قسد أو الـ ي ب ك أو الإدارة الذاتية، أو الإقليم الكوردستاني الفيدرالي، ومقابلها يحاول ممثلي أمريكا إلى المنطقة بين فترة وأخرى إيجاد سبل لإنجاح التقارب الكوردي -الكوردي، لتقوية الجبهة الداخلية والاعتماد على العنصر الكوردي بشكل رئيس، لأنهم على دراية أنه دونها يخسر الكورد عامة قبل خسارة الأمريكيين للمنطقة، فهي القوة التي بإمكانها أن تبحث عن البديل إن لم يكن اليوم فغدا، وبالتالي على القوى الكوردية أن تدرس المعادلة بتمعن وببعد سياسي بعيدا عن الحقد والضغائن.

ومن المؤلم القول أنه بدون بدونها فأن المساعدات والمكتسبات القليلة التي حصل عليه الشعب الكوردي، ستزول مع ديمومة الصراع الداخلي، وانتهاء مرحلة تقاطع مصالحهم مع المصالح الكوردية، وحتى لو تغيرت الجغرافية السياسية للمنطقة فلن يكون للكورد إلا الفتات.

د. محمود عباس

الولايات المتحدة الأمريكية

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى