اليسار مُقصِّر وشعاراته حامية!
عبد الرزاق دحنون
حين التقى الرئيس الأميركي ريتشارد نيكسون زعيم الحزب الشيوعي الصيني ماو
تسي تونغ، في 21 فبراير/ شباط 1972، قال له: أنا معجب بما فعلته لتغيير العالم.
فردّ ماو: أنا بالكاد غيَّرت الشارع الذي أعيش فيه. ثم أضاف: أنا أعتقد أنَّ اليمين
أقدر على تنفيذ ما يقوله اليسار من دون أن يفعله.
ذكّرني كلام ماو تسي تونغ بالسباق الأسطوري بين السلحفاة والأرنب، وأعتقد من
وجهة نظر شخصية بأنّ اليسار الثوري مثل الأرنب، سرعته فائقة، وقفزه عال،
ولكن اليمين متمثلاً بالسلحفاة يفوز دائماً. ما علَّة اليسار الثوري هنا؟ هل هو
الصراع بين الخير والشر؟ وهل فعلاً اليسار الثوري يمثل الخير واليمين يمثل
الشر؟
تقول الحكاية: في يوم من الأيام بينما كان الأرنب يتجوّل في الغابة، صادف في
طريقه سلحفاة تمشي ببطء شديد. فسخر منها، وهو يضحك قائلاً: بهذه السرعة
ستصلين إلى وجهتك في فجر يوم غد. فردّت عليه السلحفاة بكلّ هدوء: “في التأني
السلامة وفي العجلة الندامة”، فاغتاظ الأرنب من جواب السلحفاة وتحداها قائلاً:
“أتحداك في سباق حتى الشجرة الكبيرة في وسط الغابة”. فقبلت السلحفاة التحدّي
بكلّ ما في النفس من ثقة. وعند إشارة الانطلاق، ركض الأرنب كالسهم حتى أصبح
غير مرئي، بينما تقدمت السلحفاة بخطوات بطيئة. وفي وسط الطريق، لاحظ
الأرنب أنّ السلحفاة بعيدة جداً، فقرّر أن يرتاح في ظلّ شجرة حتى تلحق به، فيعود
إلى السباق من جديد. ولكنه غطّ في نوم عميق، فسبقته السلحفاة إلى خطّ النهاية،
وفازت عليه في السباق، بفضل مثابرتها وعدم استسلامها. وفشل الأرنب بسبب
غروره وتعاليه.
هل نظلم أنفسنا كيسار عربي وعالمي عندما نعترف بأخطاء ارتكبناها أثناء مسيرتنا
الممتدة في الزمن مئة عام؟ وهل فعلاً اليسار الثوري، ومنه الشيوعي والاشتراكي،
يحارب فكرة اليسار الأصليَّة، ألا وهي “الثورة”؟ نعم، أعتقد بأنّ الأمر كذلك. مع
أنّ اليساري (في ظنّي) عنده وجدان وضمير وشجاعة وقيم وأخلاق وإيمان. وهو
في الأصل “مناضل اجتماعي” لا تحكمه السياسة ولا المقولات السياسية، ولا نهج
جريدة لسان حال الحزب الذي يعمل في صفوفه، بمعنى لا تحكمه سياسة حزبه التي
تكون في بعض الأحيان عرجاء، بل يحكمه الوجدان الذي يدفعه لنصرة الخلق
المتعبين من عمال وفلاحين وصغار كسبة وأهل سبيل. هؤلاء وغيرهم هم أصحاب
المصلحة الحقيقية في يسار ثوري ينتصر لهم.
وقلتُ سابقاً، وأقول الآن، بأنّ المتسوّل على أرصفة الشوارع في المدن المكتظة
بالناس المتخمين حين يطالب بشيء من مال الله، يفهم فكرة اليسار (ويُحرجهم في
فهمه البسيط هذا) أكثر منّا نحن الذين ندّعي فهم مقولات اليسار الثوري بمختلف
أطيافه. ولينظر كلّ يساري إلى ما آلت إليه أحوال الخلق في هذه السنوات العجاف،
بينما من المفترض (من كلّ يساري) أن يكون مع الخلق، ضد من يسعى لإذلالهم
في معيشتهم.
وأهل اليسار، على اختلاف مشاربهم، يلتقون في النهاية على فكرة “الثورة” على
الحاكم المستبد ويقفون في صف الجماهير الغفيرة من الفقراء المتعبين بالكلام فقط،
وحين تحين الساعة، ويفور التنور، كما في “الربيع العربي”، لا تجد لليسار الثوري
صوتاً واضحاً هاتفاً. وقد لفتت نظري عبارة وردت في مساهمة المفكر والكاتب
اليساري الفلسطيني أحمد قطامش، في ملف مجلة الآداب اللبنانية على عددين
متتالين في صيف عام 2010، أي قبل ثورات الربيع العربي بأشهر، عن “هوية
اليسار العربي، الأزمة والاقتراحات”. قال في ختام مقاله: “والآن إلى محاولة
الإجابة المباشرة عن السؤال الذي تطرحه مجلة الآداب عن هوية اليسار العربي
اليوم، أعتقد أنّ هويّة اليسار العربيّ ما زالت على حالها؛ فنحن ما زلنا ضدّ كلّ
اضطهاد قوميّ، أو استغلال طبقيّ، أو دينيّ، أو جنسيّ، وما زلنا نؤمن بأنّ
الاشتراكيّة والديمقراطيّة صنوان، وأنّ السلطة هي المسألة المركزيّة، وأنّ طبقة لا
تتعلم حمل السلاح تستحق أن تعامل معاملة العبيد، وأنّ الحزب هو الضمير الجمعيّ
للأمة”. بهذه المقولات اللينينية تتحدّد هويّة اليسار، وإلا أصبح فجلاً أحمرَ من
الخارج وأبيضَ من الداخل، على حدِّ تعبير لينين.
والذي زاد الطين بلَّة أنّ الكثير من أهل اليسار المشارك في ملف مجلة الآداب
آنذاك، فشل فشلاً ذريعاً في توّقع، أو تلمس، قدوم (الربيع العربي) والتي كانت
رائحة أزهاره الفوّاحة قريبة من أنوفهم. وحين (جاء الربيع الطلق يختال ضاحكاً)
وقفوا ضدّه في كتاباتهم المنشورة خوفاً على أفكارهم العتيقة التي أكل عليها الدهر
وشرب، وبالتالي انعكست مواقفهم سلباً على ثورات (الربيع العربي) الذي أقبل مع
أوائل عام 2011، وتحوّل -فيما بعد- إلى خريف. كذلك فعلت أكثرية من أحزاب
اليسار العربي والعالمي على اختلاف مشاربها، الشيوعية منها والاشتراكية، والتي
هي ضمير الأمة (على حدّ زعم الرفيق أحمد قطامش)، حيث وقفت هذه الأحزاب
وخاصة التقليدية منها في صفِّ الحُكَّام الظلمة ضد الخلق والجماهير والأمة.
وأتساءل هنا الآن: ماذا قدّمت أحزاب اليسار التقليدية للخلق المُتعبين غير الكلام؟
ويسأل سائل: ما الذي يدفعك لتكون يسارياً ثورياً يا رفيق؟ دع اليسار الثوري لأهله
واختر اتجاهاً آخر في هذه الحياة الفانية، فأنت قد بلغت من العمر عتياً؟
قلت:
- يا رفيق كمشنا حرامي.
- اتركه.
- تركناه. ولكن يا رفيق، وهنا المشكلة (على قولة ابني الصغير إبراهيم) هو لا
يتركنا.
عبد الرزاق دحنون
كاتب وباحث سوري، مُقيم مع أسرته في مدينة إزمير التركية، مواليد إدلب عام 1963، إجازة في العلوم الطبية – قسم تخدير وإنعاش – المعهد الطبي – جامعة حلب السورية. كتب العديد من البحوث والدراسات العلمية الطبية في جريدة النور السورية. بدأ الكتابة عام 1980 في مجلة الهدف الفلسطينية التي أسسها الشهيد غسان كنفاني في بيروت عام 1969. يكتب اليوم في العديد من الصحف والمجلات العربية منها: صحيفة الاتحاد الحيفاوية، جريدة طريق الشعب العراقية، جريدة الميدان السودانية، جريدة النور السورية، جريدة قاسيون السورية، جريدة العربي الجديد، جريدة الخليج الإماراتية، مجلة الجديد اللندنية، مجلة الثقافة الجديدة العراقية، مجلة الفيصل، مجلة المجلة العربية، مجلة الكاتب اليساري الكندية، وفي العديد من المواقع الإلكترونية.