الواقعية … سيدة المواقف

الواقعية … سيدة المواقف

ضرغام الدباغ
مع اعتبار أننا في مرحلة هدر للوقت والجهد، وأن النظام الحالي العراقي ليس بنظام ويصعب إطلاق وصف محدد عليه،
هذا ما يجمع عليه الأغلبية الساحقة من العراقيين، بما ذلك فئات واسعة من الجماعات الحاكمة(كيانات سياسية
وشخصيات). ونسمع ونقرأ الكثير جداً من كافة الأطراف أقاويل شتى، والقاسم المشترك الأعظم بين المتحدثين والكتاب
والمعلقين هو ضياع تلمس الوجهة Concepttion) ) أو البوصلة، وقد فات معظمهم حقيقة أن الموقف في العراق
بل وفي عموم المنطقة، يمر بمرحلة كالمرجل في أقصى درجات احتمالة … وأن الفدرالية والكونفيدرالية، والأقاليم،
والتقسيم والتشظية والتمزق والتشرذم هي ليست ضرباً من ضروب توقعات متشائمة، بل من الأمور المطروحة على
بساط البحث والمداولات كأحتمالات …! فيما يتحدث الجميع عن ديمقراطية هلامية خيالية لا محتوى لها ولا أبعاد،
وكأنها خيار سهل ومفهوم مطروح في متناول اليد ينتظرك بباب البيت ..! لا أحد يريد أن يقتنع أنك تودع الديمقراطية
وتستقبل الطغيان والتفرد وصولاً للديكتاتورية بأشكالها الناعمة والدموية، مباشرة بعد عبورك للبسفور ولمجرد أن
تضع قدمك في القارة الآسيوية الخالدة ..!
منذ 64 عاما وأنا أشتغل وأقرأ وأكتب وأعمل كسياسي وأدرس السياسة للطلاب، لم أشاهد ولم ألاحظ لليوم كياناً أو
جهة تسعى للديمقراطية، وقد سررت حين قرأت في مؤلف استاذنا الكبير جورج سباين (تاريخ الفكر السياسي) قولاً “
الديمقراطية الحقيقية لم تكن وسوف لن توجد أبداً “ولكن الناس يتراشقون بهذه الكلمة كنوع من المكائد والتعجيز في
الناس، بالنسبة لي لا يهمني من يحكم العراق، يهمني جداً أن أعيش في مجتمع العدالة الاجتماعية هي الديمقراطية
الحقيقة، نسيم من الديمقراطية (أقصد بالديمقراطية دولة القانون المستقرة) عشناه في العراق في العهد الملكي، دفعت
العائلة المالكة ثمنه من دماءهم وحياتهم، وسحلناهم وعلقناهم عراة في الشوارع، بلا تحقيق ولا محاكمة، هذا ونحن
أكثر من يتشدق بالدين وبالحلال والحرام ونتذرع بآل البيت. وأراهن أن ثلاثة أرباع من يتحدثون بالديمقراطية لا
يعلمون ما هي الديمقراطية، معظمهم يعتقد واهماً أنها تبادل سلمي للسلطة فحسب، ومن الأوهام ما قتل …!
طيب ألم يصل موسوليني في إيطاليا للسلطة بالانتخابات (في العشرينات)، وكذلك هتلر في ألمانيا (في الثلاثينات). ألم
يصل شخص مثل ترامب للسلطة في أميركا بالانتخابات، وكاد أن ينالها مرة ثانية بالعنف (الديمقراطي)، لولا تدخل
ديمقراطي من العسكر، وقبله أحمق سخيف شبه أمي يدعى جورج بوش الأبن، ألم يحكم بريطانيا العظمى (مهد
الديمقراطية… ومهد الاستعمار …!) شخص كذاب محتال أسمه بلير (كلاوجي)، يتضمحك بخفة يعترف بقيامه بجريمة
لا داع لها، أدخل البلاد باعترافه في حرب لا داع لها ..! وفي سلة الدول الرأسمالية (الديمقراطية) 1287 تجربة
نووية وهي المتسببة بتلوث العالم وانهيار النظام المناخي، إنهم لم يكتفوا بقتل البشر فيريدون تدمير العالم أيضاَ.
الولايات المتحدة: أجرت 1032 تجربة بين عامي 1945 و 1992.
المملكة المتحدة : أجرت 45 تجربة بين عامي 1952 و 1991.
فرنسا : أجرت 210 تجربة بين عامي 1960 و 1996.
وفي سجل احتقار الديمقراطية هناك الكثير جداً من الأحداث، أحدثها هو التآمر ليل نهار على الرئيس التركي الفائز
ديمقراطياً لأنه لا يوافق مصالحهم، وغيره من الأنظمة التي فازت بالانتخابات، ولكنها عرضة لتآمرهم.
إذا وافقتموني على هذه النظرية (وقد تحدثت عن وقائع مادية)، ستصبح معها الضمة والشدة في الخطاب، وأبوك لم
يسلم على أبويا، وفلان كان يقود اللوري ودهس في طريقة (س + ص) وسائر الطروحات الشخصية وشبه الشخصية
من هذا القبيل، ستصبح من نوافل الكلام وتوافه الأمور، وينبغي أن نضعها جانبا، رغم أن بعضها مؤلم، ولكننا حين
نناقش قضية حياة أو موت إنسان على طاولة العمليات، والجميع يعلم أنه ليس بإنسان … بل وطن . تصبح قضية
ثانوية.

الجميع يطرح الحل المثالي الأقصى، فيما يدور البحث الواقعي عن الممكن، وقبل أيام كان يحدثني صديق ويطرح
الحلول الضخمة المثالية والحد الأقصى، وهو لا يملك بجيبه أكثر من قلامة الأظافر … فليتفضل مشكورا من لديه حل
أفضل يوفر كامل القوة والسطوة والبأس .. حل مضمون وليس مغامرات سندباد …. نحن نتذابح بوحشية تحسدنا عليها
حتى الضواري، العراق يمضي بسرعة إلى التدمير والتلاشي، ونجد من يعترض على مفردات تافهة لا معنى لها سوى
البحث عن ذرائع … لكي أقول لا فحسب… وهل يدرك من يقول لا ماذا يكمن خلف هذه العبارة … هل لديه حلول ذهبية
لمريض يلفظ أنفاسه ..! نحن بحاجة حتى لعربة طنبر يسحبها حصان، وهناك من يشترط ” لا ..ما أريد .. إلا بسيارة
إسعاف مرسيدس موديل 2021 ” . هذه مهزلة مثيرة للسخرية، والمؤلم فيها أنها واقعية.
كنت أحادث صديق قد عاش كل حياته في ألمانيا منذ أن كان عمره 10 سنوات، وله ميل للشيوعيين، نتحدث عن دور
غورباتشوف في تفكيك الاتحاد السوفيتي فاجئني بالقول ” أي غير .. صدام حسين ” ولما بهت وتصورت أني لم أسمع
أو أنه يمزح، فقال ” أي لو..ما صدام ما سقط الاتحاد السوفيتي … !”.فدهشت أن أصابته العدو وهو على بعد 10
ألاف كيلومتر عن الوطن الحبيب …!
نعم هناك استعمار وإمبريالية وصهيونية وقوى معادية لنا .. ولكني أعتقد أن جوهر المشكلة الأساسية كامنة فينا نحن
…! الواقع الموضوعي صعب، ولكن نحن لا نتعامل مع الأحداث بمستوى الأحداث فاللعبة أكبر من اللاعبين… السلطة
في بغداد تقبع في درجات منحطة للغاية، هم فعلاً حثالة المجتمع العراقي، طيب ولكن ماذا يمنع أن تتفاهم سائر قوى
الشعب العراقي وفيها شخصيات سياسية وعلماء وسياسيين محترمين … هذا سر من الأسرار، هل هو بسبب ارتفاع
منسوب ودرجة الأنا عند الفرد العراقي .. نعم، هل أن الثقة اهتزت بين الناس .. نعم وهذه أيضاً، هل بسبب تداخل
واختلاط الرؤية، نعم … ولكن السياسة هي فن الممكن، وليس فن الحديث وزخرف الكلام…! أنت تريد خارطة الوطن
كله، وأمامك سلطة مدعومة من المحتلين غير قادرين السيطرة على محافظة واحدة ..! لا أدري ماذا نحتاج بعد لنكون
واقعيين ..! وأعيد هنا مثل ألماني كنت قد أورته قبل فترة ..
Ich habe viele Wünsche, aber leider nicht genug Geld …..! ” “
لدي أمنيات كثيرة … لكن للأسف ليس الكثير من المال “.
كثيرون لديهم أفكار رائعة مخلصة، ولكن العبرة تكمن في التطبيق، فلنتحدث رجاء عما هو ممكن، فمن الأفضل أن
أشتري دراجة بخارية، أو حتى هوائية بقدراتي، على امتطاء رولزرايز فخمة في الأحلام، الحديث في الخيال العلمي
سهل، وللفرجة الآنية فقط، وفي بعض الأفلام يكتبون ملاحظة في بداية الفلم ونهايته، جملة موجهة للصبيان
والفتيان، ” رجاء لا تقم بهذه الحركات فهي مميتة “. وها نحن نشاهد فلما مرعباً، والعوض بالله لحين نهاية الفلم …
وعسى أن نشاهد النهاية ..!
العالم يتعامل مع الغرب على أنه في مرحلة احتضار، ولكن هذا المحتضر يمتلك أنياب نووية، وهو قاتل محترف، لن
يضيره أن يقتل بضعة ملايين أخرى يضيفهم لقائمة ضحاياه …! وفقط البلهاء من يستوعب المشهد بعقله، وكيف يفهم
من يجهل أوليات قواعد الفهم …!
بعد هذا البؤس الذي نعيشه نحن لا نستطيع التفاهم على حتى المسلمات … وعلى أبسط الأمور، لأن كل واحد منا يعتقد
أنه زعيم وقائد، وعبقري ومفكر وفيلسوف ومؤرخ لا يشق له غبار، أنظر كم شخص عراقي لديه دكتوراه مزيفة ..؟
بالآلاف ..! أنظر كم شخص يطلق على نفسه : محلل سياسي، استراتيجي ، مفكر .. قائد ، أنظر كم حركة وحزب
وميليشيا عندنا وفتش عن الفرق بينها، ستجد أنه ضمة وكسرة لا أكثر ..أليس هذا ضرب من الجنون المطلق ..! هناك
عناصر وعوامل عديدة يمكن البناء عليها ولكن هناك عجز غير مفهوم … لنكن واقعيين فليصعد البناء لحد الشبابيك
والباقي يصير خير … أحسن من النوم في العراء …. نحن الآن في العراء …
حالتنا تشبه : قطعة الأرض موجودة، الطابوق والحديد والأسمنت موجود، المهندس حاضر والعمال المهرة واقفين
بالاصطفاف … والمال موجود بوفرة … ولما لا يصعد البناء …؟
سؤال عويص …. لكنه يستحق الإجابة وليس للترك …!

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى