رأي

الموت

د. محمود عباس

لا رهبة منه، بل الرهبة من الحياة، المليئة بالمآسي والكوارث، بالفقر والأمراض، بالعيش في العراء وغضب الطبيعة. ليست سوداوية، بل انفتاح ذهني على معادلة غير معروفة ما بين العقل الإنساني والإلهي. عدم الرهبة إحساس صادم يخلق راحة بال في اللا شعور؛ عندما يتقبله الإنسان على إنها الجدلية المطلقة الحتمية، دون أن يسقط في فخاخ اللاهوتيات.

ومن الغرابة إنني بدأت أتقبلها ليس سأم من الحياة، بل نوع من التعب منها، على عتبات إعادة الماضي المليء بالمطبات والأخطاء، واستحالة تصحيحها، أو إزالتها من الذاكرة. كما وأن التوقف على أجزاء من الماضي المؤلم حد الدمعة، أصبح التشبث بالحياة مأساة بحد ذاتها.

وربما خطأي هي إن مقاييسي للنجاح والرفاهية في الحياة كانت هالات على مسافات بعيدة المدى، وما قدمته لبلوغها كانت دون المستوى، لذا ربما بلوغي هذه المرحلة من الإحساس والتفكير، تمكن في جدلية التناقض ما بين أبعاد الطموح والعمل.

الإحساس الذي دفعني لأسأل: هل هناك سعادة في فقدان الذاكرة؟ أم أن الحياة يجب أن تحمل المآسي لتكون للسعادة معنى ولذة، أتحدث هنا عن مرحلة ما بعد الصراع مع العيش وسهولة الانتقال من فشل إلى نجاح، أو من نجاح إلى فشل.

لأول مرة وأنا أتجاوز السبعين من العمر، وبعد التعرف على العديد من الجغرافيات، والتيه بين الرفاهية والمعاناة، وعلى خلفية تراكمات فكرية، أحسست بأن الحياة لم تعد لها معنى، لا فرق بين العدم وصيرورة البقاء، الحالة الفكرية التي خلقت العشرات من الأسئلة، وراحة في واقع الموت لا يقل عن شعوري بمتعة الحياة في الماضي.

لا أظن أنني عرفت الحياة، ولم أقتنع بوجود ما بعده، أرجح المجيء من العدم إلى العدم، وما بينهما حلم يضم كل المشاعر، والحياة يرسخها الباقون بعد الراحلون، ومنهم من يخلدها لمحاكمة النفس. انتهاءها إنقاذ للذات من رحلة بشرية مليئة بالتناقضات ما بين السعادة والألآم، عدم بالنسبة لرحلة الكون، وهو ما دفعني لأحس بأن الحياة مهما طالت طغيان للمعاناة من رهبة الانتهاء.

رغم أنني أشعر وبعد كل سنة من العمر إن السعادة بالوجود تزداد عندي، لكنها لم تكن عائقا أمام ما أحسست به اليوم، عدم التفضيل ما بين الحياة وما بعده. فكان فجأة السؤال الحاضر أبدا لدى الإنسان: لماذا نهاب الله، العقل الكوني؟ في الحياة وما بعده؟ ونحن عدم بالنسبة له. هل سيعاقبنا لإجرامنا بحق بعضنا؟ أم لأننا لم نعبده ونعصي أوامره؟ وهل حقا عصينا له أمراً، وهل نحن على مقدرة لامتلاك خيارات المعصية؟

تحولت الرهبة من الموت إلى اللا مبالاة، عندما اقتنعت بجدلية نفي طرفي النقيض، من أنه يوجد أو لا يوجد الصراط التي قالها زرادشت، والأديان السماوية، ولا جهنم التي اشتراها مارتن لوثر، والتي لغتها كوردية كما أدعى أحد سفهاء دعاة أئمة ولاية الفقيه، ولا جنة التي باعها الفاتيكان بأموال الدنيا، هذا ما أحس به، وأنا أعبر السبعين، الإحساس الذي يجعلني كافر في أحكام البعض، وصاحب رؤية ذاتية بإحكام أخرى.

كافر بمن؟ بالله؟ أم بمن نصبوا ذواتهم أوصياء على ممتلكاته، بالذين يرهبون ويجرمون ليس دفاعا عن الله، بل عن مصالحهم ومفاهيمهم عندما تتعرض إلى الهتك والتعرية. هل الله هو العقل الكوني أم أوسع، وإن كان؛ هل هو على مقاسات كفري؟ أم أن كفري على مقاس الإنسان المدعي بالوصي؟ إن كان وعلى مقاس الكون وربما أكوان عديدة، ألست أنا والبشرية ومجموعتنا الشمسية ومجرتنا شبه عدم بالنسبة له؟

أحياناً أؤمن بقوة ما في هذا الكون، لكنه خارج أبعاد العقل الإنساني، وعلى منطق هذه القناعة أعيش الحياة المتبقية مثلما عرضها الأخ الكاتب (عباس عباس (” هي شمعة وتنطفئ”.

حياة مديدة أنتجت الصدمة، والإحساس بأن ما بعد الموت هو ذاته ما قبل الحياة، تخمينات معرفة الحالتين تأكيد على محدودية العقل الإنساني، فالرهبة من مما بعد الموت تقابلها لذة التفكير في معرفة الماضي اللانهائي، أو لنقل نقطة العدم كما يقال في الأديان السماوية.

ومن غرائب الإنسان، عرض معارفه عن وجود أو عدم وجود خالق للكون، أي الله، بأحكام تكاد أن تكون مطلقة، علما أنها محاولات معرفية أضحل بكثير من فعل ومعرفة النملة التي تحاول صعود جبال همالايا، ومن غريزة ذبابة عمرها الزمني يومان أو أقل تتجه لتقطع الصحراء الكبرى. فدفاع الإنسان بعقله المحدود عن الله لا يختلف عن دحضه لوجوده، في الحالتين محاولات عقيمة لمعرفة العقل الكوني، أو العقل الإلهي، أو الله، أو سمه ما شئت.

خلافات الإنسان حول الله والكون والخلق وما بعد الموت، ما قبل الوجود أو العدم، جدل على مقاس عقله، سيستمر دون نهاية وبلا نتيجة، وخلق تنظيمات اجتماعية-ثقافية، دينية-سياسية لذاته وعلى مقاسه، فظل يدور في حلقاتها والتي لا تتجاوز أبعاد عقله الإنساني المحدود وكرته الأرضية. فقطتي تعرف جميع زوايا بيتي، ولكن هل تعرف الحارة المجاورة، وهل تعرف آينشتاين ونظريته، وباني الحضارات، وما بعد الكرة الأرضية. علماء الإنسان يعرفون أبعاد مجرتنا وقليلا جدا عن الكون، ولكن هل يعرفون ما بعده ومن هو آينشتاين الكون وما بعده.

الحقيقة قد تكون على مساحة أبعاد الكون وربما الأكوان، والتي هي عمق في عمق، حيث الاستحالة، التي لا يمكن للعلماء ولا الأنبياء الإنسان أن يلم بها. عقولهم معهما عظم، ومداركهم مهما تنامت، وخلقت حولها الهالات، يظل هو حجم العقل البشري معدوم بالنسبة للعقل الكوني، فخروجهم وفي حالتي إثبات وإنكار الله، عقم مقابل عقم.

فكل ما يقوله الإنسان عن الله وما يرتبط به، وما بعد الموت، وما قبل الزمن، أو كما يقول المؤمنون ما قبل الخلق، أو العلمانيون ما قبل التوسع الكوني، مستحيل، وضرب من خيال عقل شبه عدم بالنسبة للكون الذي يتجاوز نصف قطره 500 مليار سنة ضوئية. فما هو مقاسات الأرض والعقل البشري لمقاسات هذا الكون وربما أكوان عدة، وربما لا نهائية؟

فكل النظريات الفلسفية مثلما الأديان والمعارف العلمية في الكون، ماضيهم وقادمهم، تخمينات وحدس، أرضية المنشأ والأبعاد، لإقناع الذات الإنسانية، وإشباع لرغبة الهيمنة، قبل خلق الراحة النفسية أو نزعة الحب نحو المعرفة، وبعضه تخفيف لرهبة العدم بعد الموت.

جميع العلوم الفيزيائية والرياضية والفلسفية واللاهوتيات، والمفاهيم الدينية، لا تتجاوز مساحات العقل الإنساني، وكما ذكرنا، عدم بالنسبة للعقل الكوني، فأحدث الاكتشافات الرياضية تقف على حدود النظرية التي لم تثبتها العلوم بعد، 500 مليار سنة ضوئية، كما ولم تتمكن نظرية الكوانتوم من بلوغ الرقم. فالعلماء واللاهوتيون والأنبياء الذين يسخرون العلوم والنصوص لإسناد العقل الإنساني في وجود الله أو عدمه وجهي نقيض لضحالة العقل الإنساني. ففي الحالتين يحومان في مجالات العقل المعدم بالنسبة لأبعاد الكون، ويظل الخيال الإنساني وطموحاته وملذاته مصدر من مصادر التطور الحضاري مثلما هي ركيزة من ركائزها، وأحيانا كثيرة من منابع الدمار البشري.

د. محمود عباس

الولايات المتحدة الأمريكية

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

شاهد أيضاً
إغلاق
زر الذهاب إلى الأعلى