أخبارفي الواجهة

الملياردير الذي أكل لوحة الموناليزا عن جيف بيزوس ورحلاته الفضائية

الملياردير الذي أكل لوحة الموناليزا عن جيف بيزوس ورحلاته الفضائية (1 – 2)

عباس عبيد
أكاديمي وباحث.

تثير الرحلات الفضائية التي يقوم بها الملياردير الأمريكي جيف بيزوس الكثير من الجدل شرقاً وغرباً. هذا ما تحقق مثلاً مع رحلته الثانية التي كانت قد انطلقت في الشهر العاشر من العام الماضي، وضمَّت بين ركابها الممثل الشهير وليام شاتنر ذا التسعين عاماً، بطل النسخة الأولى من مسلسل “ستار تريك”، إيقونة الأعمال الفنية عن عالم الفضاء،. كانت الرحلة الأولى، التي تصدرها جيف بيزوس نفسه في العشرين من يوليو الماضي قد نالت نصيباً هائلاً من ردود الأفعال هي الأخرى، ودفعت برواد وسائل التواصل الاجتماعي لتوجيه إدانة قاسية لجيف بيزوس، ولمشاريعه التجارية. لقد تمَّ طرح تساؤلات إشكالية كبرى سنقف على بعض منها. فضلاً عن أسئلة تفصيلية، مثل السؤال عمَّا إذا كان من الممكن وصف ما يقوم به جيف بيزوس ورفقته بالرحلة الفضائية، أو إنْ باتَ من الجائز أنْ يُطلق عليهم لقب رواد فضاء. ذلك أنَّ مجمل زمن الرحلة الواحدة لا يستغرق سوى عشر دقائق فقط! شيء أشبه بذهابك لشراء علبة كوكا كولا من السوبر ماركت القريب، ثم العودة إلى بيتك. لكن لا بأس، فرحلات جيف بيزوس هي رحلات فضائية، ما دامت قد نجحت باجتياز ما يعرف في علم الملاحة الجوية بخط كارمان، وهو خط وهمي يبعد عنا بمسافة 100 كم تقريباً، ويُرسِّم الحدود بين الغلاف الجوي والفضاء الخارجي. اختبر جيف بيزوس ومَنْ رافقه الشعور بانعدام الجاذبية لثلاث دقائق. المدة الزمنية هنا ليست مهمة. فثمة زيارات/ رحلات طويلة، وأخرى قصيرة. في الأقل هذا ما نعرفه عن زياراتنا/ رحلاتنا على الأرض. جيف بيزوس وأشباهه من أصحاب المليارات مثل إيلون ماسك وريتشارد برانسون – جميعهم أرسلوا هذا الصيف رحلات سياحية إلى الفضاء – هم وحدهم من يمتلكون القدرة على تعميم ذلك خارجها. وبالنسبة لي، أعتقد أنَّ هذا ما سيحدث بالفعل، في وقت لن يكون بعيداً. علينا فقط أنْ نعيد تعريف الأشياء على نحو علمي، لكي لا تختلط المفاهيم. لنقل إنَّ كُلَّ مَنْ سافر في رحلات جيف بيزوس هو “سائح فضائي”، وليس رائد فضاء بالمعنى التقليدي الذي نعرفه. إذن، وفي المحصلة، ها نحن قد أصبحنا شهود لحظة تاريخية فارقة. فلقد بدأ عصر السياحة الفضائية يعمل بالفعل، وبحماس بالغ أيضاً.
من مرآب البيت إلى السياحة في الفضاء
في سيرة جيف بيزوس (57 عاماً) الكثير من المحطات التي تستدعي التوقف عندها، لنفهم المسار الذي مكَّنه لاحقاً من الاستثمار في ميدان جديد، تجسده السياحة الفضائية. كانت والدة جيف بيزوس قد حملتْ به وهي طالبة في الإعدادية بعمر الستة عشر عاماً، ثم سرعان ما طلَّقها والده البيولوجي، ليعيش بكنف زوجها الجديد. ولم يكن مَنْ سيصبح بمثابة أبيه الحقيقي سوى شاب كوبِيٍّ مهاجر، جاء إلى الولايات المتحدة الأمريكية بمعطف واحد، وهو في السادسة عشرة من عمره، ودون أن يعرف أيَّة كلمة إنكليزية.
راقب جيف بيزوس قبل ربع قرن عالم الإنترنت في أيامه الأولى، وفهم بذكائه ما يختزنه من إمكانات هائلة، آمن بأنها ستغير في سنوات قليلة إيقاع الحياة اليومية لبني البشر، فترك وظيفة ممتازة في وول ستريت ليؤسس متجراً لبيع الكتب المستعملة على الإنترنت “أمازون”. لقد بدأ مشروعه الخاص في مرآب بيته في سياتل، يرزم البضاعة المطلوبة بيديه، ويوصلها إلى مكتب البريد، لِتُرسَلَ إلى الزبائن. ولم يكن المبلغ الذي ساعده به والداه كافياً، فجاهد ليقنع المستثمرين بجدوى فكرته. كان بحاجة لجمع مليون دولار لتنمية المشروع، وبدا هذا وقتها أمراً أشبه بالمستحيل. لكنَّ اصرار جيف بيزوس، والنجاح الذي راح يحققه جعل كبار المستثمرين يطرقون بابه بامتنان، بعد أنْ بدا لهم المشروع حتى الأمس بلا أيَّة قيمة. لم يصدقوا أنَّ أحداً ما يمكن أنْ يشتري كتاباً بواسطة الإنترنت. جيف بيزوس اختار الكتب تحديداً من بين عشرين سلعة أخرى فكَّر في تسويقها. وكانت فكرته عملاً مغامراً بحق، برغم أنها مثَّلَّتْ ابتكاراً في وقتها. في الواقع، هذا هو حال جميع المشاريع الاقتصادية الناجحة. وهكذا انطلق جيف بيزوس مؤمناً بمبدأين أساسيين سيبقى يراهن عليهما حتى اللحظة: أولهما الابتكار، وثانيهما الاهتمام براحة الزبائن، أكثر من الانشغال بما يخطط له المنافسون.
لاحقاً سيصبح أمازون أكبر متاجر العالم، وسيُباع فيه كلُّ شيء يمكن أنْ يخطر في البال. علينا أنْ نعرف هنا أنَّ ازدهار قطاع التجارة الإلكترونية يعود في غالبيته لذكاء هذا الرجل. إنَّه رائد الاستثمار في التسوق عبر الإنترنت والبيع بالتجزئة والحوسبة السحابية وإيصال الطلبات إلى الزبائن بلا وسطاء، واستخدام طائرات بلا طيار توصل البضاعة إلى بيوتهم في وقت قياسي. لقد بدأ جيف بيزوس العمل في مشروعه الخاص وحيداً، إلى أنْ تمكَّن من توظيف عشرة موظفين، راحوا يشتغلون على الأرض، مستندين إلى ركبهم. فهو لم يكن قادراً على شراء بضعة طاولات للعمل عليها، إلا بعد أنْ حقق أول ربح بسيط. هذا الرجل نفسه صار يعمل تحت إمرته مئات الألوف من الموظفين، يديرون مشاريعه المتعددة. أمَّا شركة أمازون التي تأسستْ في الخامس من يوليو/ تموز 1994 فأصبحت ثاني شركة بعد “آبل” يتخطى رأسمالها الترليون دولار. وبفضل أرباحها الوفيرة تمكن جيف بيزوس مِنْ أنْ يؤسس شركات أخرى، ويشتري من الأراضي والمباني والقصور الفارهة ما لا يمكن حصره. باختصار، إن جيف بيزوس اليوم هو أغنى أغنياء العالم، بإجمالي ثروة تزيد على 200 مليار دولار.
كان مطلع الألفية الجديدة قد شهد توجه بعض الأثرياء الكبار للاستثمار بمشاريع بدتْ وقتها تحدياً صعباً مجهول العواقب، وربما غير واقعي أيضاً في بعض جوانبه. مشاريع تجعل اهتمامها منصباً على الفضاء. وبدأ أصحابها مثل إيلون ماسك وريتشارد براونسون بصنع مركبات فضائية، لا من أجل إيصال الأقمار الصناعية، أو تطوير خدمات الإنترنت فحسب، بل لغرض سياحي ترفيهي أيضاً. جيف بيزوس كان رائداً في هذا الميدان أيضاً. وبفضل العوائد المالية الكبيرة التي جناها من شركة أمازون قام بتأسيس شركة بلو أوريجين “Blue Origin” في العام 2000، لتهتم بما صار يعرف بالصناعة الفضائية. وما هي إلا سنوات قليلة، حتى نجح جيف بيزوس قبل ثلاثة أشهر بجعل المركبة نيو شيبرد (New Shepard) تنطلق برحلة مأهولة إلى الفضاء، ثم تعود إلى الأرض بأمان، لتدشن بذلك عصر السياحة الفضائية.
عربياً، لا تحضر موضوعات مثل هذه إلا بوصفها مادة للإثارة في بعض المواقع الإلكترونية، أو لتوشيح ختام نشرات الأنباء بشيء من الطرافة. لقد حاولت العثور على وقفة جادة تجعل همها قراءة الحدث، وفهم طبيعة ردود الأفعال العربية في مستواها الشعبي، لكني لم أجد شيئاً من ذلك للأسف. وقبل أن أشرع بكتابة هذه السطور رجعتُ إلى وسائل التواصل الاجتماعي التي أفضل مقاربتها بتأمل نقدي. كنت قد وقفتُ في مقال سابق – نشر في موقع جدلية – عند ردود الأفعال العربية تجاه قضية كاميرون هيرين “المجرم الوسيم”، ممثلة بتعليقات وتغريدات شَبَابيَّة في وسائل التواصل الاجتماعي. تنبأتُ وقتها بتراجع سريع لما أسميته ب”موجة التعاطف” مع كاميرون هيرين. وهذا ما حصل بالفعل. أحاول هنا التأسيس لمقاربة شبيهة بسابقتها، لكن بإضافة جديدة، تتمثل برصد لبعض ردود الأفعال الغربية، ومقارنتها بمثيلتها العربية تجاه موضوع واحد. لعلنا ننجح بدفع تفكير الباحثين والنقاد العرب نحو مديات أكثر رحابة، وأشد فاعلية في حياة الإنسان العربي الذي تركناه (يغرد) في العالم الإفتراضي، ولم نتوقف لتأمل أي لحن من ألحانه. في أثناء ذلك، وقبل البدء بجمع مادة المقال لفهم ردود العالمَينِ الغربي والشرقي كنت أحاول جاهداً أنْ أصرف عن ذهني جملة كبلنغ الشهيرة: (الشرق شرق، والغرب غرب، ولن يلتقيا أبداً). وسيكون مكان تلك المقارنة ضمن الجزء الثاني من هذا المقال.
إمبراطورية بيزوس: رمزيات الرحلة
إنَّ جيف بيزوس رجل ذكي بلا شك، “داهية” في الحقيقة. وهو مثل أيِّ اقتصادي ناجح يُحسن انتهاز الفرص. لنقل إنَّه هو مَنْ يعمل على خلقها في أكثر الأحيان. وبالنسبة له، تمثل السلطة جوهر الأمر كله. فلا غرابة في أنْ يسعى ليركزها كلها في يده. إنَّ بناء شركة/ مؤسسة كبرى، يشبه في بعض جوانبه بناء دولة. وفي مثال جيف بيزوس ربما كانت كلمة الإمبراطورية هي التوصيف الأفضل. مهما يكن، سيتطلب الأمر التفتيش أولاً عن بطل مؤسس بمؤهلات استثنائية، وهو هنا بيزوس نفسه الذي سيحقق حلم السفر للفضاء، أي ما كان يحلم به وهو في السنة الخامسة من عمره، وضمَّنه في الكلمة التي ألقاها في حفل تخرجه من الدراسة الإعدادية. وإنْ كان المال الذي يملكه جيف بيزوس يفوق ميزانية العديد من الدول، فسيبقى محتاجاً أيضاً إلى رمزيات مؤثرة تدعم الإيمان بقوة الدولة/ الشركة/ المؤسسة الكبرى. ولا رمزية أكبر من صعودك إلى الفضاء بمركبة شخصية. نعم. نحن أمام مركبة فضائية مسجلة باسم جيف بيزوس. هل هذا أمر عادي يشبه تسجيل أية سيارة مثلاً باسم صاحبها؟ الحق إنَّ أوراق الملكية ليست كل القضية. فالصناعة هي الأهم، لأنها هي التي ستوفر المال/ السلطة. مع هذا فجيف بيزوس نجح بامتلاك مركبة فريدة، لا تحتاج إلى طيار يقودها، حتى أنَّ ركابها لن يكلفوا أنفسهم عناء لمس أحد الأزرار، فهي مركبة ذكية ومؤتمتة بالكامل. وقد انطلقت بمعونة صاروخ قابل لإعادة الاستخدام، أوصلها لارتفاع مناسب، ثم عاد إلى محطة انطلاقه. بعد ذلك، ليس من المستغرب أن يحمل ذلك الصاروخ -في رمزية ثانية- اسم نيو شيبرد، ليمثل استعادة لذكرى آلان شيبرد، أول أمريكي صعد إلى الفضاء. سيقوم جيف بيزوس بإرسال رمزية ثالثة، بطريقة بسيطة لن تكلفه غير بضعة دولارات. فحين هبطت الكبسولة الفضائية، وخرج منها مبتهجاً شاهده العالم وهو يرتدي قبعة رجال الغرب الأمريكي (الكاو بوي). وكأنَّه بذلك يريد توكيد الهوية الوطنية الأمريكية، بعد التداعيات السلبية التي خلفتها خسارة دونالد ترامب للسباق الانتخابي، إثر هجوم أنصاره الغاضبين على مبنى الكونغرس في السادس من يناير الماضي. وبالحديث عن أناس مثل هؤلاء لا مجال للارتجال أبداً.
الرحلة الأولى: شقيق ورائدة منسيَّة وزبون مميز
لنتأمل معاً ما يبدو رمزية رابعة، يجسدها الفريق الذي اختاره جيف بيزوس بنفسه ليشاركه في رحلته ” الرحلة الأولى”. لقد كانوا كلاّ من جيف بيزوس وشقيقه مارك. جيف يصف أخاه مارك بالصديق الأقرب. ولا أجد نفسي راغباً في التشكيك بما يقول. لكني أشعر في الوقت نفسه أنَّ تلك الالتفاتة ليست بريئة مئة بالمئة، وأنها لا تخلو من رغبة خفية بإيصال رسالة ناعمة. فاصطحاب أحد أفراد الأسرة في رحلة تاريخية غير مسبوقة سيضفي على جيف مظهر الرجل المهتم بإشراك أسرته في شؤونه، وأحلامه التي يسعى لتحقيقها. وهذا الصنيع له دلالات كبيرة الأهمية في المجتمع الأمريكي. بمعنى آخر يريد جيف بيزوس أنْ يقول للجميع: حسناً يا رفاق. أمامكم رجل طيب، إنسان يحترم الروابط الأسرية، ويحتفى بها بحميمية صادقة، وليس حَصَّالَة نقود بلا مشاعر. وهذا ما سيحرص على تأكيده مع ثاني أعضاء فريق الرحلة كما سنرى، وسيكرره في الرحلة الثانية أيضاً. ولعل هذا المسعى لتحسين صورته يستبطن رداً على سيل الاتهامات الموجهة لجيف بيزوس. مثل توغله في الاحتكار، والتهرب الضريبي، والأجور المتدنية للعاملين في مؤسساته. وكانت ظروف العمل فيها قاسية، لاسيما مع التفشي الكبير لوباء كورونا. لقد أُجبر الكثيرون من الناس على التسوق عبر الإنترنت، واعتماد خدمات التوصيل بسبب حظر التجوال، فمن الطبيعي أنْ تحقق شركة أمازون أرباحاً طائلة، لأنها الأكبر في هذا الميدان. وبينما بقي موظفوها ملزمين بمواصلة العمل لساعات إضافية، لم توفر لهم الشركة أبسط مستلزمات السلامة، مثل الأقنعة والمطهرات الكحولية، مع إنَّ تكلفتها لا تعني شيئاً ذا بال.
لماذا قلت إنَّ جيف بيزوس داهية؟ حسناً. لنتأمل كيف سيقوم بتأكيد الرسالة الناعمة ذاتها بانتقائه للشخص الثاني في الرحلة. لقد اختار سيدة تدعى (والي فانك) تبلغ من العمر 82 عاماً بالتمام والكمال. وكانت هذه السيدة تَلقَّتْ دروساً عن الطيران وهي في عمر التاسعة، وتقدَّمَتْ في ستينيات القرن العشرين للقبول في برنامج (مركوري) الذي أسَّسته وكالة ناسا لاختيار رواد الفضاء الأوائل. تمكنتْ والي فانك وقتها من اجتياز جميع الاختبارات بنجاح، وتفوقت حتى على المتقدمين الذكور، لكن تم استبعادها بسبب التحيزات الذكورية في الأغلب. عملت والي فانك في ميدان الطيران لسنوات طويلة، وتملك في سجل خدمتها أكثر من 19 ألف ساعة طيران. كما قامتْ بتدريب الآلاف على قيادة الطائرات، وأصبحتْ أول امرأة تعمل مفتشة سلامة في إدارة الطيران الفيدرالية. في أثناء ذلك ظل حلمها القديم بأن تصبح رائدة فضاء قائماً لسنوات طويلة. لكنها حين بدأت تقترب من عقدها الستيني أدركتْ أنَّ فرصتها قد أصبحت مستحيلة. مَنْ سيتذكر مواطنة عجوز خدمتْ أمريكا بإخلاص، وتقاعدت عن العمل منذ سنين طويلة؟ ومَنْ الذي سيتيح لها أنْ تحقق حلمها شبه المستحيل بالصعود إلى الفضاء وهي بعمر الثانية والثمانين؟ هي نفسها ستقول لاحقاً: (لم أكن أعتقد أني سأنجح بالصعود إلى الفضاء أبداً). إنَّه المواطن الصالح جيف بيزوس مرة ثانية. إذ قام بنفسه بتوجيه الدعوة إليها كضيف شرف مميز. وأعلن عن ذلك في منشور له في خدمة إنستغرام، قائلاً: (لم ينتظر أحد كلَّ هذا الوقت الطويل مثل والي فانك. والي، أهلاً بك ضمن الطاقم).
لقد اتسمتْ ردود الأفعال تجاه جيف بيزوس وبقية ركاب الرحلة بسلبية مطلقة، لكنَّ الاستثناء الوحيد تمثَّل بالسيدة والي فانك، إذ قُوبِلتْ بتعاطف واضح، وحظيتْ باحترام واعجاب كبيرين. كانت بحسب بعض المتفاعلين امرأة خارقة “Super wally”، تبدو أصغر من عمرها بكثير، وتتمتع بصحة ممتازة تثير الاعجاب. وتستحق بلوغ الفضاء.
وماذا عن الشخص الثالث في الرحلة؟ الحق إنَّ حكايته تستدعي التأمل أيضاً، إنَّه فتى هولندي يدعى أوليفر دايمن، وهو طالب بعمر 18 عاماً، أكمل للتو دراسته الإعدادية، ويخطط لدراسة الفيزياء. ومعنى ذلك إنَّ رحلة بيزوس قد ضمَّتْ بطاقمها الرباعي ثلاثة أجيال مختلفة. والي فانك من جيل، وجيف بيزوس وأخوه مارك من جيل آخر، وأوليفر دايمن من جيل ثالث. كما إنها سجَّلت –وقتها- رقمين قياسيين، فقد حملتْ على متنها أكبر مَنْ ارتاد الفضاء سناً “والي فانك”، وأصغرهم أيضاً “أوليفر دايمن”. هذا الفتى يشبه السيدة العجوز، فكلاهما حقق حلماً قديماً، بالصعود للفضاء. ما يفرق بينهما بعد ذلك أنَّ دايمن لم يكن ضيفاً شرفياً، بل زبوناً دفع أموالاً لقاء خدمة تلقاها. فجيف بيزوس يرغب أيضاً، وربما أكثر من أيِّ شيء آخر، في تذكير العالم بأنَّ رحلته تُدشِّن عصر السياحة الفضائية. وهكذا أسَّستْ شركة بلو أوريجين لمزاد عبر الإنترنت، طرحتْ فيه للبيع التذكرة الوحيدة المتبقية لمَنْ يرغب بتجريب رحلة غير مسبوقة. بدأ المزاد بمبلغ مليونين وثمان مئة ألف دولار، فماذا كانت النتيجة؟ لقد تزايدتْ أعداد المشاركين فيه بسرعة بالغة حتى صارت بالألوف، وتوزع الراغبون بالشراء على أكثر من مئة وأربعين دولة من بلدان العالم. وفي نهاية المطاف بِيعَتْ تذكرة الرحلة للفتى أوليفر دايمن بمبلغ ثمانية وعشرين مليون دولار. وهو مبلغ بدا للكثيرين كبيراً جداً لقاء رحلة من عشر دقائق فقط، حتى وإنْ تجاوزتْ خط كارمان ببضعة كيلومترات.
الرحلة الثانية: أسطورة ورقم قياسي جديد
إنْ كانت الرائدة التاريخية والي فانك أسطورة أمريكية منسيَّة أعاد جيف بيزوس التذكير بها، فصاحب الرقم القياسي الجديد ذو التسعين عاماً هو أسطورة حية. إنَّه وليم شاتنر الكندي الأصل، الذي يتمتع بشهرة عالمية كبيرة. في بلد عربي كالعراق على سبيل المثال، لا يزال كثير من الناس ممن هم في أواخر الأربعين من العمر فما فوق يتذكرون شخصية الكابتن كيرك، التي جسدها وليم شاتنر ببراعة، في النسخة الأولى من سلسلة الخيال العلمي ستار تريك (1966 – 1969). كان تلفزيون العراق قد عرض السلسلة في نهاية العقد السبعيني من القرن الماضي، فأثارتْ بعوالمها العجيبة اهتمام العراقيين صغاراً وكباراً. لقد احتفظ الكابتن كيرك بأكبر نسبة من الإعجاب، يليه السيد سبوك “ليونارد نيموي” وباقي طاقم السفينة الفضائية “انتربرايز” التي تجوب الكواكب، لتعمل على حفظ السلام الكوني.
لن نجد اثنين يختلفان في كون “الكابتن كيرك” هو الأكثر استحقاقاً لمقعد في رحلة فضائية حقيقية، بعد أن أمتع العالم لسنوات طويلة برحلات فضائية في عالم الفن الخيالي. ومَنْ يرجع لتفاعل الناشطين في السوشيال ميديا سيقف بسهولة على كم هائل من الفرح لما حققه وليم شاتنر، وانبهاراً بقدراته الجسدية وهو في عمر التسعين. وتماماً مثل ما وقفنا عليه في مثال والي فانك، سيكون هو الاستثناء من بين رفقائه أيضاً. والاقتباسات الآتية، وهي لمدونين غربيين خير دليل على ذلك: ]ألف مبروك وليم شاتنر/ أنا ناقد كبير لبيزوس، لكن هذا كان جميلاً، باركك الله وليم شاتنر/ أنا سعيد لأنَّ بطلي أيام الطفولة يذهب إلى الفضاء/ كم هو مناسب أنْ يذهب الكابتن أخيراً إلى الفضاء، أحسنتَ يا كيرك/ الكابتن كيرك.. شكراً جزيلاً لك على إلهام جيل كامل في سعيه وراء الحياة بين النجوم/ شاتنر لا يخذلنا أبداً، يا لَهُ مِنْ رجل رائع، لا يمكن للكلمات أنْ تصف ما يعنيه لنا/ وليام شاتنر أفضل شخصية في هذه الرحلة…[
يؤكِّد جيف بيزوس تقديره الكبير لتاريخ وليم شاتنر، وقد ذكر أنَّ والدته نجحتْ بأنْ تحفظ له بعضاً من ألعابه التي كان يصنعها من الورق المقوى قبل ثمانية وأربعين عاماً، لتجسد شخصيات وعوالم “ستار تريك”. سيعيد بيزوس اللعب بالأوراق التي صنعها يوم كان في عمر التاسعة، مع البطل الحقيقي هذه المرة، وسيرسلها معه إلى الفضاء أيضاً. لا مشكلة في ذلك. فالمعجبون بوليم شاتنر موجودون في كل بقاع العالم. وكثيرون منا – مثلما حصل مع بيزوس- لم يكونوا يتفقون بيسر مع أقران الطفولة قبل أكثر من أربعة عقود بشأن مَنْ سيلعب دور الكابتن كيرك والسيد سبوك. لكن ماذا لو جربنا أن نضيف لهذه السردية سبباً آخر؟ وأرجو أنْ لا أكون مُتجنَّياً فيه. فلو تأمَّلنا ضيوف الشرف في الرحلتين سنجد أنَّهما أفضل مَنْ يمكنه تقديم دعاية مجانية لمشروع جيف بيزوس. إنَّ أي خبير دعاية يريد الترويج لسلعة أو خدمة، عليه أنْ يقنع الناس بأنه سيمنحهم تجربة استثنائية فريدة، وآمنة أيضاً. ولمَّا كان ركوب الافعوانية في مدينة الملاهي يمكن أنْ يتسبب للبعض بذعر شديد، أو حتى أزمة قلبية، وكان السفر إلى الفضاء أشدَّ خطورة من ذلك، فسيكون السبيل الأمثل لتطمين أصحاب الأموال المتردِّدين والمتخوفين من مغامرة كبيرة كهذه أنْ تقدم لهم مثالاً عملياً لامرأة في الثانية والثمانين، وبعدها لرجل في التسعين، ذهبا إلى الفضاء، ثم عادا بيسر وأمان. من دون أنْ يتنافى ما نذهب إليه مع الأسباب المتقدِّمة آنفاّ. إنَّ أصحاب المطاعم لا يتفوقون في الذكاء على جيف بيزوس حين يقدمون الوجبات مجاناً في اليوم الأول، ليعرف الناس جودة الخدمة المقدمة، وليعودوا لشرائها في اليوم التالي. لقد بدأت شركة بلو أوريجين تعرض في موقعها الرسمي تذاكر رحلاتها القادمة، وتسأل الزبائن عن عدد المقاعد التي يرغبون بحجزها. وإنْ نجح جيف بيزوس بتقديم ضيوف شرف مميزين في الرحلة الثالثة او الرابعة فإنَّ ذلك الكرم سيتوقف عاجلاً أم آجلاً. نحن نتحدث في النهاية عن استثمار بمليارات الدولارات، وثمة وسائل لاصطياد عدد كبير من العصافير برمية/ رحلة واحدة.
مهما يكن من أمر، فسنكتشف في الجزء الثاني من هذا المقال أنَّ عالم السوشيال ميديا يخبئ لرحلا ت جيف بيزوس الفضائية الكثير مما هو عجيب ومثير حقاً. وربما لم تكن طبيعة تفاعل روادها العرب لتخطر ببال أحد. وسنعرف عندها كيف أصبحنا نعيش في عالم غرائبي يدعو للعجب. عالم مخادع، يوهمنا بأننا نعرف عن أنفسنا كل شيء، في حين إنَّ الوقائع تقول لنا شيئاً آخر مختلفاً تماماً.

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى