أحوال عربيةدراسات و تحقيقات

الماء في العراق .. القصة و الحكاية … مياه العراق

مياه العالم التحتي في العراق.. القصّة الكاملة يوسف المحسن كاتب، روائي

الصحراء..الارض المنبسطة والمتآلفة مع العطش والجفاف، صلابة وجهها تُخفي ملامح اخرى تحاول ان تحفظ ماء الوجه، في عالمها السفلي خزانات وخرائط لا عدَّ لها من الاحواض المائيّة والمسارات وربّما الجداول، ويمكن القول ان الفسحة الغنيّة الفقيرة في جوفها تشبه قافلة من الابل المحمّلة ذهبِاً وكنوزاً لكنّها تأكل العاقول.

منذ آلاف السنين والمياهُ تُحدِّد خارطة التجمّعات البشريّة في كل مكان، عند ضفاف الانهر والبحيرات والواحات والينابيع وعيون الماء خرائط تتبدّل بنضوب او طفح هذه المصادر، وتحت سطوة الظروف القاسية في البوادي فهي صاحبة اليد الطولى في تعيين اماكن هذه التجمّعات والتي تنسلُّ وراء المياه والعشب اينما حلّ، الماء أعز مفقود وأهون موجود وفق ابلغ اوصافه في التراث العربي، يقول الباحث احمد حمدان إنَّ سطوة الماء على الحياة العربيّة تعدّت رسم اماكن الاستقرار السكّاني والتجمّع الاحيائي من حيوانات ونباتات إلى احتكار التسميات، فصارت المناطق والرقع تُسمّى وفقاً لمصدر المياه فيها، حمدان اضاف “ناحية بصيّه اخذت اسمها من عين ماء وقيل ان ماءها كان يتلألأ بصيصه في وسط الوادي من بعيد، وعين صيد صار اسمها يُطلق على ما يحيط بها من مناطق، قضاء السلمان وهو عين ماء لقبيلة حِمْيَر، ومثله النبعه وهي عين ماء في وادي العاذر، والصليلي والعطشان وهما ينبوعا مياه عذبة”، ويضيف حمدان وهو باحث وناشط بميدان الدفاع عن التنوّع الاحيائي “إنّ المياه سواء كانت ينابيع ام عيون ام ابار ام واحات كانت سبباً في ديمومة الحياة وسط قساوة الجو الصحراوي لتكون ملتقى للقوافل قديماً ومحطات استراحة للعابرين”.
ويؤكّد خبير الجغرافيّة الطبيعيّة الدكتور سرحان الخفاجي فرضيّة الدور الذي لعبه الماء في رسم خارطة التجمعات السكانيّة والنمو الاحيائي من نباتات وحيوانات، الخفاجي الذي اعدّ دراسة ميدانيّة عن المياه الجوفيّة في الباديّة الجنوبيّة قال انّ المياه كانت عاملاً رئيسياً عبر التاريخ في ولادة التجمعات الحضريّة وبناء المستوطنات السكّانيّة او محطّات استراحة العابرين، ويضيف الدكتور الخفاجي وهو تدريسيّ في جامعة المثنى “خذ مثلاً بلاد ما بين النهرين قبل آلاف السنين والتجمعات السكانية في البادية العراقية حيث تتوافر المياه الجوفيّة”.

في البدأ كانت المياه

والماء اول الاشياء والعنصر الاساسي الذي لا غنى عنه، وفي البديهيات الاسلاميّة نجده سبق الخلق او كان بموازاته ﴿ وَهُوَ الَّذِي خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ فِي سِتَّةِ أَيَّامٍ وَكَانَ عَرْشُهُ عَلَى الْمَاءِ لِيَبْلُوَكُمْ أَيُّكُمْ أَحْسَنُ عَمَلًا …﴾هود7. وسبق ذلك حضور للماء في التعاليم والمثيلوجيات الدينيّة والحضاريّة القديمة، فالأسطورة البابليّة تقول “لم يكن غير الماء في الازمان الاولى”، وفي سفر التكوين الاوّل من التوراة ورد “في البدأ خلق الله السموات والارض وكانت الارض خربة وخالية وعلى وجه الغمر ظلمة وروح الله يرّفُّ على وجه المياه”، حقائق ومكانة سبغت النظرة الى الماء وحضوره في يوميّات الانسان عبر العصور، فكيف لا يكون اختياره قبل المكان لهذا كانت التجمعات السكانيّة قريبة من المياه وكأنّها تستمدُّ منها القوّة.
ولنا ان نتتبّع حضور الماء في الشعر العربي لنتخيل هذه المكانة، فماء الارض مثل ماء الوجه يتعافيان بوجوده ويهزلان بغيابه يقول شاعر:
إذا قَلَّ ماء الوجه قَـلَّ حياؤه
فلا خير في وجه إذا قل ماؤه
ويقول ابو العتاهيه(130هـ-211هـ)
أَفنى شَبابَكَ كَرُّ الطَرفِ وَالنَفسِ..
فَالمَوتُ مُقتَرِبٌ وَالدَهرُ ذو خُلَسِ
تَرجو النَجاةَ وَلَم تَسلُك مَسالِكَها،
إِنَّ السَفينَةَ لا تَجري عَلى اليَبَسِ.
فالسفينة وهي الحياة هنا لا تدوم بلا مياه، والماء منتهى الحلول الذي يوفر الإجابات الغائبة للأسئلة الحاضرة، يقول آخر:
إلى الماء يسعى من يغص بلقمة
إلى أين يسعى من يغص بماء ؟
مصير الاعجازي لا مناص عنه ولا خلاص منه
يقول الحلاج (858م – 922م):
ألقاه في اليم مكتوفاً وقال له
إيّاك..إيّاك أن تبتل بالماء

احد عشر عيناً
المياه متوافرة على شكل عيون(ينابيع) وعددها 11 او ابار، هكذا اكمل الدكتور سرحان الخفاجي حديثه قائلاً إن عدد الابار هو 1335 بئرا وتمتد على منطقتين رئيسيتين الاولى موازية للسهل الرسوبي وما يسمى فالق (خزان) الفرات وعددها 764 لتضم مناطق الكصير والرحاب والغضاري والعميد وابو مريس والاشعلي وكور الطير والرحبة والفضوة والمملحة اضافة الى بحيرة ساوه، واعماقها بين 100ـ120 مترا، فيما المنطقة الثانية الى الجنوب من السهل الرسوبي تشمل مناطق السلمان وهدانيا والشاويه والساعة وابو حضير وابو اللوم والوجاجة وام تنانير واللهب والشفلحية لتضم 376 بئرا”، الخفاجي اضاف “وتوجد ابار متفرقة قرب الحدود مع العربية السعودية بمناطق تخاديد وانصاب وتكيد وعادن والامعر وهي اكثر عمقا وقد تصل الى 500 متر”.

بين البئر والعين

والفارق بين الينابيع والابار يكشف عن ميزات اخرى للمياه المتوافرة فيها، فالنبع عبارة عن مياه تنبثق تلقائياً وبشكل طبيعي من باطن الارض الى سطحها، واشهرها عيون العميد والوحشيّة وآل بطّاح والرحاب الصليبات والفضوة والثويرية وحمود، فيما الابار عبارة عن ممر عمودي محفور في الارض او ثقب لسحب المياه الى الاعلى ويكون بشكل يدوي او ميكانيكي فيما الكثير من الابار تتدفق مياهها تلقائيا بفعل ما اسماه الدكتور الخفاجي بـ الضغط الهيدروليكي وتسمى الابار الارتوازيّة.
وللآبار اسماء شعبيّة تطلق بالرجوع الى اعماقها، وعن ذلك يقول الباحث احمد الجشعمي “الحسو او الحسيان هو البئر بعمق متر او مترين اما الخرايج فعمقه يصل الى عشرة امتار وغالباً يحفر عند اكتاف الوديان، فيما النوع الثالث والذي يبلغ عمقه اربعين متراً وأكثر فيسمى الطوال وهي ابار لا تنضب مثل بصيه، تكيد، دويران، رويحان، دودان”.

مستوطنات العالم السفلي

وتشير الدراسة الى ان مكامن المياه في البادية الجنوبيّة تتوزّع على اكثر من خزان ارضي كبير وبأعماق متباينة، واغلبها تتجمّع في خزانات باطنيّة وهي كل من “ام ارضمه وعلى اعماق بعيدة وتكوين الدمّام الذي يُعدّ الخزّان الرئيسي للمياه في المنطقة وتكويني الفرات الجيري والغار وهما بمياه اكثر ملوحة مضافا الى ذلك تكوين (خزّان) الزهرة وهو من الترسبات الحديثة او ما يطلق عليه ترسبات العصر الرباعي انتقالا الى تكوين الدبدبة ذي المياه الاقل وفرة والذي يساعد على ترشيحها الى الخزانات الجوفيّة”.
ويُعَدُّ خزان الدمّام الجيري الاهم في البادية الجنوبيّة لامتداده الواسع واحتوائه على عدد من الطبقات الجيريّة والدولومايتيّة المتشقّقة والمتكهفة والتي تساعد على حرية حركة المياه تحت الارض، وعن ميزاته يضيف الخفاجي “انكشافه بمساحات واسعة يسهل تغذيته من مياه الامطار والسيول وتماسه مع تكوينات خزنيّة اخرى وموقعه القريب من مستوى الارض جعله الممول الرئيسي للآبار في البادية”.
وتتغذى المكامن المائيّة في البادية على مياه الامطار في حالات السيول عبر وديانها ومن خلال الشقوق والفواصل والحفر الواصلة الى المكامن، واهم الوديان المغذية هي الكصير والاشعلي وابو غار وابو نفيله والغانمي والخرز وشعيب حسب وقرين والثماد والامغر ووادي البطن، حيث يضيف الدكتور الخفاجي ان تغذية الخزانات الارضية (المكامن) تأتي ايضا من حركة جريان تحت السطحي للمياه القادمة من جنوب غرب المنطقة.

الرعي الجائر للمياه

وفي ظل التوسع السكّاني والخطط الاستثماريّة وفعاليات النمو الاقتصادي دخلت المياه في البادية الجنوبيّة في قائمة الثروات التي يسعى خلفها قطار التنمية واحلام الانسان، وبعد ان كان يريدها لسد رمقه او ارواء حيواناته صار الان يستخدمها للزراعة والصناعة وبوتائر متصاعدة، حيث يقول الدكتور يوسف الصفراني ان اعداد الابار وكميّات المياه التي تسحب من تحت الارض لا تتناسب مع كمية التغذية للخزانات الارضية سواء عن طريق الامطار او الجريان التحتي، الصفراني اضاف “اننا بصدد الوصول الى مرحلة تنخفض فيها مناسيب مياه الخزانات الارضية الى مرحلة الجفاف” ويستطرد قائلاً “المشكلة هي في منح اجازات الابار والاجازات الاستثماريّة الصناعية والزراعيّة دون ادراك لقدرة المخزون المائي على تلبية هذه الاحتياجات وهناك ابار تحفر الان بلا موافقات”، وفي وقت اشار فيه الدكتور الخفاجي الى ان نوعية المياه تصلح وبدرجات متباينة لأغراض ومحاصيل متعددة فقد حذر من التمادي في الاستخدام المفرط لها والذي ادى الى جفاف اعداد كبيرة من الابار في مناطق الرحاب وبحيرة ساوه اضافة الى البحيرة ذاتها مضيفاً “يجب السيطرة على المياه المسحوبة وتقنين استخدامها بشكل علمي ومدروس”.
ومن اجل الحفاظ على الثروة المائية وحماية التنوع الاحيائي في البادية والحفاظ على النظام البيئي توصي الدراسة التي شملت على مخططات ورسوم توضيحيّة وجداول بالتوسع في استخدام تقنات الري وتنفيذ مشروع حصاد المياه واقامة السدود في الوديان وتوجيه السيول المطريّة اليها واعادة حقن المكامن الارضيّة للحفاظ على مناسيبها وهي اجراءات تُعَدُّ ضروريّة لحماية البادية ومنع وصول اليباس والجفاف الى جوفها، واذا كان المثل العربي يصف ما يحاك للإنسان من شر او مكروه بالقول ان الماء يسير من تحته فاليوم تبدو الخطورة في توقف الماء عن السير تحتنا ونفاد مخزون العالم التحتاني وبما يجرّ مشاكل كبرى قادمة تضاف الى قائمة التحدّيات البيئية.

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى