الفَقَرُ في الَوطَنْ غُرَبْةَ، والغِنَىَ في الغُربة وَطَنْ
الفَقَرُ في الَوطَنْ غُرَبْةَ، والغِنَىَ في الغُربة وَطَنْ
أصدق ما قيل، وممكن أن يُقال في توصيف حال الشعوب العربية، والإسلامية اليوم في بعض دول الوطن العربي وخاصةً في قطاع غزة بفلسطين المُحتلة هو ما جاء علي لسان الشاعر العراقي الكبير معروف الرصافي رحمه الله في قصيدة شعرية شاهقة سامقة نكتفي بِذِكر بَعضِ أبيات منها: “المَوْتُ أَفْجَعَهَـا وَالفَقْرُ أَوْجَعَهَا … وَالهَمُّ أَنْحَلَهَا، وَالغَمُّ أَضْنَاهَـا…فَمَنْظَرُ الحُزْنِ مَشْهُودٌ بِمَنْظَرِهَـا،.. وَالبُؤْسُ مَرْآهُ مَقْرُونٌ بِمَرْآهَـا.”؛ وكأن الشاعر الكبير المفضال رحمه الله يتكلم عن حال غزة الآن!. إن بناء، وتنشئة الإنسان الصالح لهو أعظم شأنًا من إقامة، وتشيد كُل البُنَيان، وزيادةِ العُمران. وأعظم تنمية في العالم هي التنمية البشرية لإيجاد الإنسان الصالح، ومن ثم المواطن الصالح لنفسهِ، ولمجتمعه، وللناس أجمعين؛ ومن حكمة الخالق سبُحانهُ، وتعالى أنه جعل من الناس الأغنياء، وجعل منهُم الفقراء، وهكذا هي حَال الحياة الدُنيا، وإن الله جل جلاله لم يترك الفقير ليغرق في ظُلمات الفقر، وكذلك لم يترك الغنى يستأثر بماله دون ضوابط شرعية؛ ولذلك أمر الأغنياء بإخراج الزكاة، والإكثار من الصدقات، والإنفاق على الفقراء، والمساكين، والغارمين، وفي سبيل الله، وابن السبيل تحقيقًا للعدالة، والتراحم بين الخلائق، وكَسرًا لحدة الفقر الذي ينجم عنه الكثير من المشكلات النفسية، والاجتماعية، والاقتصادية الخ..؛ التي وضع الإسلام لمعالجتها أطرًا نظرية لو طبقت لاختفت كُل مشكلات البشرية، وكذلك فإن الفقراء يدخلون الجنة قبل الأغنياء ولذلك النبي صلى الله عليه وسلم قال: “اللهم إني أعوذ بك من الكفر، والفقر”، ويقول سيدنا على بن أبى طالب رضي الله عنه: “لو كان الفقر رجلاً لقتلته»، فلا يوجد في السنة النبوية ما يثنى على الفقر، أو يحث عليه فالفقر يؤدي لتفكك، وتدمير الإنسان في المجتمع، وهو غير محمُود في الفكر الاجتماعي، والإسلامي لأن للفقر آثار سلبية كثيرة سيئة على الفقراء، وتؤدي لِنتائج سلبية تنعكس على كُل المجتمع. وخلاص العالم من الفقر يكمن في تطبيق شرع الله في أرضهِ من خلال النظام الإسلامي الاقتصادي الشرعي، وتأدية الزكاة للفقراء من أموال الأغنياء، وتطبيق الشريعة الإسلامية، والتي فيها كل العدل، والخير؛ وإن الفقير إن لم يجد ما يسد بهِ رمقه في وطِنه، وكذلك حينما يشاهد كبار المسؤولين من أولى الأمر يعيشون رغد الحياة، ويتنعمون بالخيرات، وبِما لذ، وطاب، هم وأولادهم، وحاشيتهم، وهو لا يجد قوت يومه له، وِلِعيالهِ، فيتضورن جُوعًا، ويتعرضون للتغافل والتجاهل، والاهمال، والظلم، فلا يجد الفقير وأولادهُ فرصة عمل كريمة فذلك يؤثر سلبًا في نفسية الفقير، ويولد عندهُ البغض، والكراهية، وقد يصير يكره حتى الوطن، فَيخرج مُهاجرًا في مناكب الأرض سعيًا وراء لقمة العيش والحياة الكريمة بعدما صار يشعر، وكأنهُ غريب في وطنه!. لقد حث الإسلام الأغنياء للإنفاق على للفقراء، والتَبَرُع من أموالهم من غيرِ انتظار مقابل، وفي ذلك قال رسول الله (صلى الله عليه وسلم): ” مَن مَنَح مِنْحَةً غَدَتْ بصَدَقَةٍ ، وراحَتْ بصدقةٍ ، صَبُوحِها وغَبُوقِها”. وتوضيح الحديث هو: “مَن مَنَحَ”، أي: أعْطى “مِنْحَةً” وفي بَعْضِ الرِّواياتِ (مَنيحَةً)، أي: ناقةً أو شاةً تُدِرُّ لبَنًا فيُنتفَعُ به، ثمَّ يَرُدُّها إلى صاحِبِها بعدَ ذلك، “غَدَتْ بصَدَقَةٍ”، أي: حُسِبَتْ للمانِحِ عندَما تُحلَبُ في أوَّلِ النَّهارِ صَدَقَةً، “وراحَتْ بصَدَقَةٍ”، أي: حُسِبَتْ له عندَ آخِرِ النَّهارِ صَدَقَةً؛ والوَجْهُ في تَخْصيصِ الوَقْتيْنِ بأنَّهما وقْتُ الانْتِفاعِ بحَليبِ المَنيحَةِ، “صَبوحَها وغَبوقَها” الصَّبوحُ ما حُلِبَ من اللَّبَنِ أوَّلَ النَّهارِ، والغَبوقُ أوَّلَ اللَّيلِ، فهذه الصَّدَقَةُ هي نِعْمَ الصَّدقَةُ؛ لأنَّها مِن أَجْوَدِ المالِ وأطْيَبِهِ، واللهُ طيِّبٌ لا يَقْبَلُ إلَّا طيِّبًا”؛ وكذلك حث الإسلام على بذل الفضل؛ حيث يقول سيدنا رسول الله صلى الله عليه وسلم: “من كان عنده فضل ظهر فليعد به على من لا ظهر له، ومن كان عنده فضل زاد فليعد به على من لا زاد له”، وهذا الحديث يحث على الصدقة، والجود، والمواساة، والإحسان إلى الرفقة، والأصدقاء وقِيام الأغنياء الميُسورين الحال بمواساة المحتاجين، والفقراء، والمساكين. ونحن نعيش اليوم عصرًا يفر فيه العربي المسلم بنفسهِ من بعض بلاد المُسلمين هروبًا من الفقر والبطالة، ومن الظُلم الاجتماعي إلى بلاد الكُفر سعيًا للعمل، وللعيش بكرامة؛ بعدما ضاعت كرامتهُ، ومُسحت بِالأرض في وطنهِ!؛ رغم أن مخاطر الهجرة كبيرة منها الموت غريقًا في بحر الغُربة. إن الوضع المعيشي اليوم لأغلب سكان قطاع غزة كارثي، وأسود، وأشبه بِسواد أيام النكبة الفلسطينية واللجوء، والتشريد وضياع الوطن عام 1948م!؛ لأنهُ نادرًا ما تجد من يَحن على السكان الفقراء، المساكين، وقليلٌ من يَجُبر كسرهم، ويرحم فقرهم، وضعفهم؛ بل تجد بعض القيادات أدعياء الِّديِنْ صاروا تُجارًا فُجارًا يلاحقون الفقير، والمسكين في لقمة عيشهِ، ويفرضون الضرائب الكبيرة، والكثيرة على كسرةَ الخُبز، وأنبوبة الغاز، والخضار، ويلاحقون المواطن في كل شيء!؛ والمصيبة كذلك أن أغلب الأغنياء يشكون من صعوبة الوضع، وكأنهم فُقراء وقد أصابهُم دَاء البُخل، والكِّبر، رغم أنهُ تكرشت بطونهم، وانتفخت، وصاروا كأنهم بلا رقبة من شدة الأكل والشُرب، وأصيبوا بداء التُخَمَة، وكأن الضمير الإنساني عندهُم صار ضمير غائب، وضمير مُسَتَتِّر!. كل ذلك يحدث بينما الفُقراء فقرهُم يشتد، ويزداد، ويستعِر!؛ وأما أغلب القيادات فهُم في وادِ والشعب في وادٍ آخر!؛ وأما أغلب قادة الأحزاب، والفصائل، والتنظيمات الوطنية، والإسلامية واليسارية، وأخواتها فَكُلٌ غالِبًا ما يُغنى علي ليلاه، وجعلوا من الشعب مثل كُرة القدم بين فريقين كبيرين الكل منهم يركُلها بقدمهِ بكل قوة، وقسوة حتى اقتربت من أن تنفجر في وجُوهِهم!. يا سادة القوم يا من تنامون على وسَادَّة من حرير، اتقوا الله فالناس حالهم صعبٌ للغاية ومأساويِ، وكالمغشي عليه يعُاني من شدة سكرات الموت؛ ومن يمشي في شوارع غزة كل يوم وخاصة في الأسواق العامة، وأَمَاَمَ أبواب المساجد يجد كمًا من المُتسولين نساء، وأطفال صغار وبعض الشباب، والشيوخ، وكأنهم فقدوا الأمل في القيادات وخاصة ممن يحكم قطاع غزة وقالوا بكل صراحة، ووضوح: “بأن مَال حَماس لِحَماس”؛ تلك هي الحقيقة المُرة التي يجب أن تُقال!!. وإن الحصار الصهيوني الظالم علي غزة لا يكتوى بنارهِ إلا الفقراء، والمساكين في غزة؛ وحينما تُقرع طبول الحرب من عصابة الاحتلال المُجرم تجد من يستشهد هو أغلب السكُان المدنيين من الفقراء المساكين الأبرياء!؛ وهكذا يستمر مسلسل المعاناة الشديدة، والكبيرة، والمحن العظيمة لسكان غزة لدرجة، وصلت أن بعض الشباب اِنَتَحَر، وقتل نَفَسهُ!؛ والبعض الأخر هَجْ مُهاجرًا لبلاد الغربة سعيًا للعمل، لعلها تصب وطنًا له؛ ومنهم من غرق في البحر أثناء محاولته الهجرة لِدول أوروبا ليكون طعامًا للسمك؛ ومن الفقراء والمساكين من مات قهرًا سواء بالجلطات الدماغية، أو السكتة القلبية!؛ وبعضًا من السكان في غزة صاروا يتمنون الموت، والسكن في باطن الأرض لأنهم يرونها صارت خيرٌ لهم من ظاهِرها في زمن كثرت فيه الفتن، ويَحَكُمْ الرويبضة!. وبعض سكان غزة صار يقول علنًا، وعلى وسائل التواصل الاجتماعي: “لقد كان زمن الاحتلال لغزة متساويًا في السوء بل أسوأ من العيش اليوم، وشاهدنا بعض من صدر له تصريح للعمل في عند الاحتلال في داخل فلسطين المحتلة فعمل حفلة “فدعوس”، وكأنه يوم فرحه وطبل، وزمر فرحًا بتصريح العمل عند العدو!؛ نعم لقد أوصلتم الناس لحال صعب صار من المحال العيش في ظل هذا القهر، والفقر، والظلم؛ فكرامة المواطن أصبحت مُهانة، والبعض الأخر من سادة القوم لا يهمهم غير أنفسهم، ويأكلون الجوز، واللوز، والأخضر، واليابس؛ وأما الغالبية العُظمى من سكان قطاع غزة الأن يشعروا بأنهم صاروا مثل: ” الأيتام على موائد اللئام”، فلا نصير لهم، ولا بواكيٍ لهم!؛ ولم يبقى لهم غيرُ الله جل جلاله!…
لقد غرق أغلب سكان قطاع غزة في بحر من الفقر، والظُلم، والمحاكم، والظُلم، والظَلام والظالمين لأنُفسِهم، ولِشَعبهم، فهذا هو أدق توصيف لحال شعب غزة المكلوم المظلوم اليوم!!. ومنذ الانقلاب الأسود قبل أقل من عقيدين من الزمن _ والناس في تراجع للخلف، حصارٌ وحروب، وفقرٌ، وجهلٌ، وغلاء معيشة فاحش، وفرض ضرائب باهضه على المواطنين، وكأن من يحكم قطاع غزة يقول للسكان: إن البحرُ من أمامكم، والاحتلال من خلفكم، فلا خيار آخر لكم إلا الصبر علي المُر، والحنظل، والعلقم، وانقطاع متواصل للتيار الكهربائي لساعات طويلة والفقراء، والمساكين في غزة حالهم مؤلم جدًا إنهُم كمن يلتحفون السماء غطاءً، ويفترشون الأرض فراشًا، وجراحهم نازفة دون طبيبٍ مُطبب، يُطبب، ويُضمد الجراح، ويُطبَطِّبْ عليهم؛ وهم يَبكون، ويتألمون، وغير مسموح لهم البوح، وإلا فويلٌ لهم تم ويلٌ لهم من القمع، والردع والاعتقال من أولى الأمر، والنهى في غزة!؛؛ فغير مسموح للمساكين، والفقراء أن يعلو صوتهم بالتَأوه أمام العالم، رغم من شِدة الألم!؛ ولا راحم، ولا راحة لهم، ولو بَكُوا ثم بَكُوا حتي ارتوت الأرض من دموعهم، وحتى جفت منهم الدموع!!..
إن أصحاب القلوب السوداء، والعصبية الحزبية العمياء الحمقاء، كالعجوزِ الشيطانةِ الشمطاء العوراء لا يهتمون لشعبهم، ويبُررون كل فعلٍ لهم، فقد زين الشيطان لهم أعمالهم؛ فلم يرحموا دموع الفقراء، والمساكين، ولسان حال الظالمين يقول للفقراء: “لو سِحِّتُم، وذبّتُم كالشموع أو مُتم من شدة البكاء وكثرة الدموع، أو كبدًا، وكمدًا وغيظًا، وفقرًا، وقهرًا _ فلا بواكي لكم أيها الفقراء المساكين من الحاكمين لأنكم في نظرِهم قد خرجتم على الحاكم بأمر الله وخالفتهم أدعياء الِّدِّيِنْ!. وكأن من يحكُمون قطاع غزة اليوم يتلذذون بعذابات الناس، أو على قلوب أقفالها، أو يظنون أنفسهم الحاكم بأمر الله!؛ كل ذلك، والناظِّر لِحال كل أبناء القيادات، والمسؤولين، الأمُراء والسفراء، والوزراء، والقادة، والساسة دون استثناء أحد إلا ما نذر، وكل من معهم، ويصفق لهم من الأفاكين، والسارقين، ومصاصي دماء الفُقراء؛ فجُلُهُم يعيشون في رغَدِ العيش، فلا تجد أي أحد من أولادهم فقير، أو محتاج، أو من غير وظيفة مرموقة، وأما غالبية الشباب، والخريجين من الجامعات وحتى، ولو حاصل على شهادة الدكتوراه العليا، ولكنهم ممن لا ينتمون للأحزاب من أبناء الشعب، ولا يحصلون على تزكية من أمير المسجد لأنهم لا ينتمون لهذهِ الحركة، أو التنظيم الحزبي فيبقى هذا الخريج ذو الشهادة العلمية العليا بِدون عمل أو وظيفة، ولكنه لم يفقد الأمل. وغالبًا تجد الخريجين اليوم عاطلين عن العمل، وذويهم تحت خط الفقر، المدقع، والقهر المُفقع!. يقُتُلهم الظلم، والهَم، والحُزن، والقَهر، والجوع، والمرض!؛ وصدق سيدنا على بن أبي طالب رضي الله عنه القائل: ” الفقر في الوطن غربة، والغنى في الغربة، وطن”؛ فالغربة خارج الوطن مع العمل والعيش مستور الحال تبقى بالنسبة للبعض أفضل بِكثير من العيش فقيرًا يمد يدهُ يطلب المعونة من الناس، وخاصة في وطن صار يسَكُنه، ويعشعش فيه الفساد، والاستبداد، والرشوة والمحسوبية بكافة صورها؛ فقد استشرى الفساد حتى وصل النخاع، وصار الناس في الأوطان فاقدين لنعمة الأمن الغذائي، والأمان الوطني، والعيش بِكرامة؛ وصار أغلب الشعب يبحث عن أي فرصة عمل، ولو كان في أي مكان من العالم سعيًا ليُعيل أُسرته، ولو سافر أخر الدنيا بعيداً عن وطنه، وأولادهِ، مُكرهًا، ومُجبرًا لا بطلاً على ترك، تُراب وطنه المبارك الذي نشأ، وترعرع وعاش فيه ولكنهُ اضّطُر لفعل ذلك بسبب الفقر، وعدم وجود فرصة عمل في وطنه، وتَغُول من يَحُكم !؛ إن الشعوب المنكوبة، والمغلوبة على أمرها هي التي تشعر بالغربة في وطنها، لأنها حبيسة سياسة بائسة حاربت المواطن الغلبان في كل شيء حتى في لقُمة عيشهِ فصار الخُبز مُرًا !؛ فقمعت حرية الرأي، والتعبير، وسحلت كرامتهِ في الأرض، وحاربتهُ في لقُمة العيش بالغلاء الفاحش، وزادت الأثرياء ثراءً، والفقراء فقرًا!؛؛ لذلك هاجر الكثير من الشباب العربي، وخاصة من قطاع غزة من وطنهم من أجل العيش بكرامة حثًا عن لقمة العيش الكريمة وكأن لسان حالهم يقول ما قاله الشاعر معروف الرصافي رحمه الله: ” غزة المَوْتُ أَفْجَعَهَـا وَالفَقْرُ أَوْجَعَهَا … وَالهَمُّ أَنْحَلَهَا، وَالغَمُّ أَضْنَاهَـا…فَمَنْظَرُ الحُزْنِ مَشْهُودٌ بِمَنْظَرِهَـا،.. وَالبُؤْسُ مَرْآهُ مَقْرُونٌ بِمَرْآهَـا.”؛
المفكر العربي والإسلامي الباحث والكاتب الأديب الأستاذ الدكتور/ جمال عبد الناصر محمد عبد الله أبو نحل
الأستاذ الجامعي عضو نقابة اتحاد كُتاب وأدباء مصر، رئيس المركز القومي لعلماء فلسـطين
رئيس مجلس إدارة الهيئة الفلسطينية للاجئين، والاتحاد العام للمثقفين العرب في فلسطين
—