ثقافة

الفيلسوف وعَالَم الكتابة

إبراهيم أبو عواد / كاتب من الأردن

الفَيْلسوفُ هُوَ الكائنُ الوحيدُ الذي يَكونُ عُمُرُه حَيَوَاتٍ متكررة مُنبثقة مِن أحزانه المتكررة
، وهُوَ ضَميرُ الإنسانيةِ الحَيُّ ، إنَّه صَرخةُ العَالَمِ الرافضِ للتدجين . مِهْنته هِيَ صَعقُ الناس
لتحريرهم مِن أنفسهم ، وانتشالهم من النظام الاستهلاكي الخانق ، والأخذ بأيديهم إلى حقيقة
المعنى ، وإرْشادهم إلى الضَّوْءِ في نهاية النَّفق ، وإنقاذهم من الخوف لكي يَنطلقوا إلى الأمام
. وأفضلُ طريقةٍ للتخلص من الخوف هِيَ اقتحامُه . ارْمِ نَفْسَكَ في قلبِ الخوف لكي تُفجِّرَ
الخوفَ مِن دَاخله ، وتَشعرَ بالأمان الروحيِّ والهدوءِ الماديِّ .
والفَلْسَفةُ تُزيلُ الاكتئابَ ، وتُشعِرُ الإنسانَ بِجَدوى الحياةِ ، وأهميةِ العقلِ الإنسانِيِّ في
حَركةِ التاريخِ ومَسارِ الوُجودِ . والفلسفةُ هِيَ فَنُّ التَّنقيبِ عن الذات وتطهيرُها.والوسيلةُ
الوَحيدةُ لِتَخليدِ الفلسفةِ هِيَ بِنَاؤُها على رَمزيةِ اللغةِ والمشاعرِ الإنسانيةِ . وَسِوَى ذلك سَوْفَ
تَزولُ الفَلسفةُ . والفلسفةُ هِيَ ضَوْءُ الشمعة ، وخريطةُ الضَّوْءِ ، وخُطةٌ واقعية لكي يُصبح
الذَّكرُ رَجُلًا ، وتصبح الأنثى امرأةً ، ويُصبح الشخصُ إنسانًا . والفَيْلسوفُ يُحْرِقُ الشوائبَ في
الرُّوح الإنسانية لكي يَمنح الخلاصَ والطهارةَ للإنسان . إنَّ إزالةَ الشوائب من الرُّوح
الإنسانية تَجْعل الرُّوحَ طاهرةً ومُطهِّرةً للأنساق الاجتماعية . ولا يَخفى أن إزالةَ الشوائب من
الذَّهبِ تَرتقي بالذَّهبِ إلى درجةٍ أعلى . ولا مَكان للبريقِ في ظِلِّ وُجودِ الشَّوائب . وعُمُرُ
الفَيْلسوفِ حَيَوَاتٌ متكررة لأنه يَعيش في أماكن كثيرة دون أن يُغادِر مكانه ، ويُولَد في أزمنة
كثيرة مع أنَّ تاريخَ ميلاده _ في شهادة الميلاد الرَّسمية _ واحدٌ لا يتكرر. وهذه الحَيَوَاتُ
الحارقةُ المحترِقةُ تَنبعث من أحزانه ، لأنه موجودٌ في مجتمعٍ لا يعرف قيمةَ الفلسفة . إنَّه
يموت في كُل لحظة لأنَّه يَدْفع ضريبة التاريخ مِن جِلْده ، ويُسدِّد دُيونَ الحضارةِ من أعصابه .
حياةُ الفَيلسوفِ نزيفٌ مُتواصل بلا انقطاع .
الكتابةُ تَعبيرٌ عن الأنا الأُخْرَى الكامنةِ فِينا ، وعمليةُ تطهُّرٍ مستمرةٌ . والأشخاصُ
يُمارِسون فِعلَ الكتابة مُنطَلِقين مِن حُب عنيف أو حُزن عنيف . وهاتان الطاقتان ( الحُب /
الحُزن ) أكبرُ من قُدرة الإنسان على التَّحمل، فيتمُّ اللجوء إلى الكتابةِ للتخلص من هذا الحِمْل
الزائد ، وهذا الضغطِ الهستيري ، مِمَّا يُؤدي إلى تحقيقِ التوازن في النَّفْسِ البشريةِ . إنَّنا في
سَفينةٍ مُهترئةٍ في قلب البحرِ الثائر ، ويَنبغي التخلصُ من الأحمال الزائدة لكي تَستعيدَ السفينةُ
توازنَها، ويَستعيدَ البحَّارةُ ثِقتهم بأنفسهم ، ويَصلوا إلى شاطئِ الأمان . ورَغْمَ كُلِّ شيء ،
سَيَظلُّ الفيلسوف الحقيقيُّ هُوَ الذي يَعتبر الكتابةَ موقفًا من الوجود بِأسْره ، لا لحظةَ حُب زائلة
، أو شعورًا حزينًا عابرًا . إنَّ الكتابةَ هِيَ فَلسفةُ الوجودِ الواقعيِّ والخيالِيِّ ، ولَيْسَتْ هِوَايةً
لِمَلْءِ وَقْتِ الفَراغ ، أو وَجاهةً اجتماعية . وأبجديةُ الحُلْمِ في الكتابةِ هِيَ العذابُ المتواصلُ
الذي يَهْدِفُ إلى تَخليصِ المجتمعِ مِنَ العذابِ ، وتَحريرِ الأنساقِ الحياتية مِنَ الفَوضى ،
وترسيخِ المعاني الأخلاقية في أقصى المشاعرِ الإنسانية .

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى