.الفوضى..الفوضوية..الفوضى الخلاقة..وماذا بعد؟!

سلام ابراهيم عطوف كبة

خطأ شاع فكان العرف من هذا الشياع
صواب حكم العرف عليه بالضياع
وسواد الشعب مأخوذ بخبث وخداع
لقطيع يلحق الذئب وينعى: اين حقى؟!
ليس هذا الذنب ذنب الشعب بل ذنب الولاة
وجهوا الأمة توجيه فناء لا حياة
وتواصوا قبل أن تفنى بنهب التركات
واذا الحراس للبيت لصوص: أين حقى؟!
لادراك مفاهيم من قبيل النظام او الفوضى في الكون والمجتمع او في اية منظومة(System)،نستخدم مفهوم(الانتروبيا Entropy)،التي تشير الى مقدار الفوضى،اي الاختلاط وغياب الاتساق الشكلي او الظاهر مما يستتبع التساوي وغياب التراتب بين المكونات،والطاقة التي لا يمكن الاستفادة منها!والانتروبيا تعني حصيلة التبدد غير القابلة للاسترجاع،حسب تعريف اسحق عظيموف في كتابه”افكار العلم العظيمة”،ص 185.وبينما تؤكد نظرية التطور بأن التغيرات والتبدلات الحاصلة في الكون تؤدي الى زيادة التعقيد والنظام،وان التطور هو متصاعد الى اعلى وبوتائر مستمرة،فأن القانون الثاني للديناميكا الحرارية “قانون زيادة الانتروبيا”،يؤكد على ان جميع التغيرات والتبدلات الحادثة والجارية في الكون تسير نحو زيادة”الانتروبيا”،وبالتالي زيادة الفوضى والتحلل والتفكك!تطور وفوضى،تقدم وتفكك،هذا هو صراع المتناقضات!
اما نظرية الشواش او الهيولية(Chaos Theory)فهي من احدث النظريات الرياضياتية،وتترجم احيانا بنظرية الفوضى او العماء،وتتعامل مع موضوعة الجمل المتحركة(الديناميكية)اللاخطية التي تبدي نوعا من السلوك العشوائي يعرف بالشواش!وتحاول نظرية الشواش ان تستشف النظام الخفي المضمر في هذه العشوائية الظاهرة محاولة وضع قواعد لدراسة مثل هذه النظم مثل الموانع والتنبؤات الجوية والنظام الشمسي واقتصاد السوق وحركة الأسهم المالية والتزايد السكاني.وتدعو هذه النظرية بالحقيقة الى المشاركة الفعالة بين العلماء من مختلف التخصصات،لأن التقسيم التقليدي للعلوم الى فروع مستقلة وتخصصات،قد شكل احيانا عقبة في طريق التقدم العلمي التقني،وبلغ النجاح مداه عندما تحطمت الحواجز بين العلوم،وبرز مفهوم التطبيق المتبادل للخبرات العلمية،حيث يمكن لكل علم ان يستفيد من الاكتشافات والاطروحات والاختراعات التي تأتي بها العلوم الاخرى وتكتشفها.
خلال تطوره الهائل في العصور الحديثة امتد اسلوب البحث العلمي ليشمل ميدانا بعد آخر،ولم يعد اي حقل او اي جزء او اية جهة من جهات الطبيعة والمجتمع البشري مغلقا امام البحث العلمي!ومن هذا التطور العلمي امكن الاستنتاج بأنه لا العالم كمجموع،ولا اي جزء من اجزائه،يمكن اعتباره كشئ جامد الطبيعة،او كشئ ساكن ستاتي،اي صيغ مرة واحدة وللابد،بل ان العالم كمجموع وكل شئ في العالم،انما هو خاضع لقوانين التغير،ويدخل في عملية التطور التاريخية!وتفهم هذه العملية كصراع للمتناقضات الداخلية الكامنة في جميع مظاهر الطبيعة والمجتمع!وقد كتب لينين:”الجدل وحده يقدم المفتاح للحركة الذاتية لكل شئ في الوجود،ويقدم المفتاح للقفزات والوقفات عبر الاستمرارية،والتحول الى النقائض،ولهدم القديم وبروز الجديد.ووحدة التناقضات مشروطة انتقالية مؤقتة نسبية،بينما يكون صراع التناقضات المنافية لبعضها الآخر مطلقا،اطلاق التطور والحركة تماما”حسب كتاب لينين”حول الديالكتيك”.
الجانب غير المنتظم من الطبيعة،اي الجانب الذي يفتقر الى الاستمرارية ويمتلئ بالاخطاء والغموض،يمثل”لغزاً”للعلم والعلماء.وفي سبعينيات القرن العشرين،بدأ عدد قليل من العلماء يشقون طريقهم وسط الفوضى والاضطراب،وتوصل علماء الفيسيولوجيا – علم وظائف الأعضاء – الى اكتشاف نظام مدهش يحكم الفوضى التي تنشأ وتتطور داخل قلب الانسان،وتكون السبب الرئيسي في الوفاة المفاجئة التي تفتقر الى ما يفسر حدوثها.كما تعرف علماء البيئة على عوامل نشأة”حشرة العتّة”وفنائها،بينما تمكن علماء الاقتصاد من الكشف عن بيانات قديمة حول اسعار الاسهم،وحاولوا طرح نوع جديد من التحليل.
لقد تبين ان ظاهرة”الفوضى”موجودة في كل مكان:من عمود الدخان المتصاعد من”سيكارة”مشتعلة ويتحطم في دوائر جامحة،والراية ترفرف تحت تأثير الرياح،والمياه المتدفقة من حنفية تبدأ بنمط منتظم ثم سرعان ما تتحول الى عشوائية.وتظهر كذلك الفوضى في سلوك الطقس،وفي تحليق الطائرة في الجو،وفي حركة السيارة على الطريق،وفي مسار النفط في الانابيب تحت الارض.وادى ادراك ذلك،الى تغيير في الطريقة التي يصنع بها رجال الاعمال قراراتهم فيما يتعلق بالتأمين،وفي الاسلوب الذي ينظر به علماء الفلك الى النظام الشمسي،وفي الطريقة التي يتحدث بها”المنظرون السياسيون”عن الضغوط التي تؤدي الى الصراعات المسلحة.
وتسهم نظرية الشواش بنمذجة Modelling النظم بواسطة معادلات رياضية بسيطة جدا،وتؤكد ان الاختلافات الدقيقة في المدخلات يمكن ان تؤدي الى”فروق شاسعة”في المخرجات،وهذه ظاهرة عرفت بظاهرة(الاعتماد الحساس على الظروف والاحوال الاولية).وكان ادوارد لورنتز العالم في مجال الارصاد الجوية من اوائل الباحثين والمكتشفين لنظرية الفوضى منذ عام 1960.
علم الهيولية ابن شرعي للتطور العاصف في الانظمة الحاسوبية،ويمكن ارجاع الفضل في توضيح المفاهيم الأساسية للهيولية الى بنوا ماندلبرو واضع هندسة الفراكتال،وروبرت ماي عالم البيولوجيا الذي قام بدراسة معادلة الفروق ومنها اكتشف ظاهرة التفرع الثنائي،وميشيل فاينجنباوم الذي اكتشف مبدأ العمومية ووضع اشكال معروفة باسمه لتصوير تحول النظام الى الهيولية،وروبرت شو الذي أسس جماعة عرفت بأسم”جماعة النظم الديناميكية”في جامعة سانت كروز كان لها فضل كبير في تأسيس العلم.
تنشأ الهيولية من تكرار العمليات البسيطة البدائية لملايين المرات مما يجعل العين المجردة تخطئ النظام الكامن بها،الأمر الذي استدعى استخدام برامج الحاسوب لتقوم بدور المجهر البيولوجي لتسهيل تتبع الظاهرة ودراستها.ويطلق على استنباط القواعد التي تنتهجها الطبيعة في التعبير عن نفسها التحليل الهيولي،والذي يستند على اساسيات هي:التغذية الخلفية Feedback لتكون مخرجات خطوة ما من تطبيق معادلة ما هي مدخلات الخطوة التالية،المعاودة Recursion لتطبيق التغذية الخلفية عددا هائلا من المرات،اللاخطية Nonlinear،الحساسية المرهفة للتغير في المؤثرات Sensitive Dependence on Initial Conditions وظاهرة الفراشة Butterfly Effect(ادنى تغير في المعاملات يمكن ان ينتج عنه تأثير غاية في الضخامة).
• الفوضوية فلسفة
تفتقر الفوضوية لأي اساس فلسفي منسجم ومتماسك،واساسها الفلسفي يتميز بظاهرة(الانتخابية)،اي الاقتباس من مختلف المدارس الفلسفية على تناقضها البالغ،وعدم الاهتمام بتكوين وجهة نظر عامة موحدة للكون والمجتمع والفكر.ويلاحظ اختلاف الاسس الفلسفية لمفكري الفوضوية،فليست هناك جامعة فلسفية تجمع بين برودون مثلا،الذي يعتمد لحد كبير على الجدل المثالي(خاصة الهيغلي)،وباكونين الذي يعتمد على الفلسفة الليبرالية،وكروبوتكين الذي يتبنى بشكل واع نظريات الوضعية الكونتية والسبنسرية،مع المادية الآلية والاسلوب الميتافيزي،والفوضويون المعاصرون الذين يستمدون اسلحتهم الفلسفية من الوجودية والشخصانية والنسبية وحتى من مدرسية العصور الوسطى(مثال ذلك روكر الالماني).كما يلاحظ ان المدارس الفلسفية التي تستند اليها الفوضوية صراحة او ضمنا،هي على الدوام نقيض المادية الديالكتيكية وانها باختصار الفلسفات المثالية والميتافيزية على اختلاف الوانها.
الواقع ان الفوضوية انما نشأت تاريخيا كتعبير عن قلق البورجوازية الصغيرة من تطور النظام الرأسمالي وطغيان قوانينه الاقتصادية،وخاصة قانون التركز،والتحول البروليتاري العام،فكان من الطبيعي ان تحارب الطبقة المذكورة الفلسفة العلمية التي كانت تعكس التطور الاجتماعي الحقيقي وتساعد على تفسيره وتسارعه معا،بأسلحة تستمدها من ترسانة المثالية والميتافيزية.
ما يميز مجموع النظريات الفوضوية في التطور التاريخي،هو انكارها لموضوعية القوانين الاجتماعية والتاريخية،فالتاريخ في نظرها لا يسير وفق قوانين موضوعية يقتصر البشر على تطبيقها وترجمتها للعمل،بل التاريخ هو مجموعة من المصادفات،وفي احسن الفروض انه من خلق(الابطال)او(الارادة الحرة)او(الايمان بالقوة)او بعبارة اخرى تشكل الفوضوية في هذا المجال تيارا هاما من تيارات المثالية التاريخية والذاتية الاجتماعية،وخاصة المدارس السيكولوجية منها،التي تنكر دور الجماهير والعوامل الاقتصادية والمادية،وتركز على العوامل النفسية التي تجد فيها المفتاح الحقيقي لحل الغاز التاريخ.
الفوضوية تيار من التيارات المغرقة في الفردية،وهي تعتبر الفرد،بعد تجريده من ارتباطاته الاجتماعية والطبقية،الوحدة الاساسية في المجتمع،وما المجتمع في نظرها الا تكديس لهذه العوالم او الخلايا الفردية المستقلة،كما انها تعلق تحرر المجتمع على تحرر الفرد او ما تسميه(بالشخصية)،ومن هنا رفعت شعارها المعروف (كل شئ من اجل الفرد!).ويؤكد كروبوتكين مثلا أن العلم الحديث يرى ان مفتاح فهم الظواهر المختلفة يكمن في دراسة وحداتها الصغيرة المكونة لها،وهم(الافراد)،ومن الضروري توسيع هذا المبدأ الى العلوم الانسانية.ان الفوضوية في نظره تنطلق من مفهوم(الفرد الحر)ومن وجهة النظر الفردية هذه،يصل كروبوتكين الى الدفاع عن المدرسة الذاتية في علم الاجتماع.وبدلا من تركيز الانظار على دراسة القوانين الموضوعية للمجتمع البشري يقدم كروبوتكين تقديرا شخصيا للحوادث التاريخية يتفق مع مثله الخاصة.ويكمل كروبوتكين النظرة الذاتية للحياة الاجتماعية بموقف ميتافيزي من الظواهر الاجتماعية.وقد ظهر المثل الاعلى الفوضوي باعتباره تجسيدا للمبادئ الخالدة،للعدل والمساواة والحرية!
يتبنى الفوضويون افكار المودة السائدة،كالوجودية والشخصانية،التي تعبر عن تفسخ الثقافة البورجوازية الصغيرة،ويستغلون فكرة الدفاع عن حقوق الفرد كستار لستر اعمالهم!انهم يدافعون عن حقوق المساواة بين جميع الآراء السياسية والفلسفية والدينية مهما كانت رجعيتها.وتقوم الزمر الفوضوية برفع شعارات من قبيل اتحاد الثقافة العالمي،وغير ذلك من الهراء المماثل،لستر مساعيهم المفضوحة في تسليم شعوب بلدانهم لصقور العولمة الرأسمالية.
ان موقف الفوضوية من الدولة هو اكثر مواقفها انكشافا للشعب،بل ان الكلمة الاجنبية للفوضوية(الاناركية)مشتقة من كلمتين يونانيتين معناهما(اللاسلطة)،او انكار الدولة بوجه عام!والفوضويون يكملون نهيليتهم السياسية (انكار الدولة)بالنهيلية القومية(انكار القوميات)،فلا يرون في الوطن الا مجرد مفهوم جغرافي،اي مجرد محل الولادة!ويرفض اللاسلطويون ما يوصفون به من ان اللاسلطوية مرادفة للفوضى الشواش(Chaos‏)،العدمية،او اللانظامية(anomie‏)،وهم يعتبرون المجتمع اللاسلطوي مجتمعا مضادا للسلطة(anti-authoritarian‏)متناغم يعتمد على التشارط الطوعي للافراد الاحرار في التجمعات التلقائية والادارة الذاتية(self-governance‏)لأمور المجتمع!وهم يخلطون بذلك عمدا،بين اللاسلطوية والمجتمع المدني والمنظمات غير الحكومية!
ولم يتغير دور الفوضويين حتى اليوم في مجرى الاحداث العالمية بالرغم من انحسار نفوذهم في اغلب البلدان الرأسمالية،فهو دور تخريب وحدة المنظمات العمالية من جهة،والجبهات الديمقراطية من جهة اخرى.آيديولوجيا،يتبنى مفكرو الفوضوية البارزون اليوم،العولمة الرأسمالية والفلسفات الامبريالية الرجعية على المكشوف!
• الفوضى الخلاقة
“الفوضى الخلاقة”مصطلح دخل القاموس السياسي في العقدين الاخيرين،ويتميز بقدر كبير من الالتباس والتأويل يصل الى حد التحايل والتلاعب اللفظي لوصف حقبة سياسية تاريخية صاخبة،وبمسار خارج المألوف الطبيعي للخطاب السياسي – الفكري التقليدي،عبر بناء نسيج من المتقابلات المختلفة للمصطلحات تهدف الى تحقيق ستراتيجية معينة ومنهج لادارة المصالح الغربية في المناطق التي تتركز فيها تلك المصالح!الفوضى خلاقة بالنسبة لمصالح الغرب،وغير خلاقة،بل مدمرة بالنسبة للاوطان والشعوب!وهذا المصطلح يخوض وينشط في حيز العولمة الرأسمالية وصعود الليبرالية الجديدة!والمصطلح يجمع بين متناقضين متقاطعين،فوضى وخلاقة!ويفهم من المصطلح ان عصر الافكار الرصينة والمنظمة والآيديولوجيات الكبرى فات اوانها،وعلى المجتمعات ان تسلك ممرات كثيرة للوصول الى جزيرة الاستقرار.
وعليه يمثل مصطلح الفوضى الخلاقة احد اهم المفاتيح التي انتجها العقل الاستراتيجي الامريكي في التعامل مع القضايا الدولية،حيث تمت صياغة هذا المصطلح بعناية فائقة من قبل النخب الاكاديمية وصناع السياسة في الولايات المتحدة،وعلى خلاف مفهوم الفوضى المثقل بدلالات سلبية كعدم الاستقرار اضيف اليه مصطلح آخر يتمتع بالايجابية وهو الخلق او البناء،ولا يخفى خبث المقاصد الكامنة في صلب مصطلح”الفوضى الخلاقة”لاغراض التضليل والتمويه.
الفوضى البناءة هي النظرية المعتمدة لوصول الليبراليين الجدد الى الحكم،وفق زخم شعبي مصطنع.الفوضى ابدا لم تكن بناءة،اذ هي نقيضة للنظام ونقيضة للعمل التغييري المنظم،وطوال تاريخ البشرية لم تكن الفوضى ابدا سلاحا للتغيير،بل سلاحا ضد التغيير على الأقل من زاوية اجهاض التغيير بالتفجر دون وجود قيادة منظمة تنظم وتوجه وتقود حركة الشعوب من اجل التغيير الحقيقي وبناء عالم الغد.
اشتهر ميكافيللي المتوفى عام 1527 بأنه عميد المدرسة التي تعرف السياسة بأنها:”فن الخداع والغش”او”فن الخساسة”و”الغاية تبرر الوسيلة”!بعد ان نجح في طمس آثار سابقيه،وتأسيس مدرسته الخاصة في فن السياسة،بحيث اصبح عميد السلك النفعي في السياسة!ولا غرابة ان يكون ميكافيللي قد وضع حجر الاساس لنظرية القوضى الخلاقة”التي نادت بها كوندوليزا رايس ومعها عدد كبير من الساسة الامريكيين،وباتت الفوضى الخلاقة بذلك النظرية الامريكية التي تلائم الألفية الثالثة”منذ ذلك التاريخ!الفوضى الخلاقة مصطلح سياسي عقدي يقصد به تكون حالة سياسية او انسانية مريحة بعد مرحلة فوضى متعمدة الاحداث!وعلى الرغم من وجود هذا المصطلح في ادبيات الماسونية،واشار اليه الباحث والكاتب الامريكي دان براون،الا انه لم يطف على السطح الا بعد الغزو الامريكي للعراق حيث انتشرت بعض فرق الموت والاعمال التخريبية المسيسة من قبل الجيش الامريكي وبعض الميليشيات المسلحة!
في سنة 1924 اصدر عالم الاقتصاد النمساوي شومبيتر 1883- 1950 كتابه الشهير عن الرأسمالية والاشتراكية والديمقراطية،واطروحة الكتاب المركزية”اطروحة التدمير الخلاق”وما انتجته من”المنافسة الهدامة”انها تدمير هدام يسهم في خلق ثورة داخل البنية الاقتصادية عبر التقويض المستمر للعناصر الشائخة والخلق المستمر للعناصر الجديدة!ويبدو ان اطروحة”شومبيتر”عقيدة استرشد بها غلاة الادارة الامريكية!وبأسم هذه الاطروحة دمر العراق واستلبت موارده وزرعت به بذور فتنة طائفية ومذهبية واحزاب متناحرة وفوضى الخطف والتقليد والقتل والتهديد،انها فوضى بوش وادارته الخلاقة التي تبشر بشرق اوسط جديد!
ولفهم مصطلح”الفوضى الخلاقة”تاريخيا،يمكن الرجوع الى”مايكل ليدن”العضو البارز في معهد”اميركا انتربرايز”المعروف بكونه قلعة”المحافظين الجدد”.ومايكل ليدن هو احد اصحاب النفوذ في دائرة المحافظين الجدد،ارتبط اسمه بعد الحادي عشر من ايلول 2001 بنظرية”التدمير البناء”وهو مشروع التغيير الكامل في الشرق الاوسط الذي يشمل اجراء اصلاحات سياسية واجتماعية واقتصادية شاملة في كل دول المنطقة!وكذلك كتابات”راؤول مارك غيريشت”وهو من منظري المحافظين الجدد والمختص في الشأن العراقي والشيعة!وابحاث مؤرخين نافذين امثال”برنارد لويس”من جامعة برنستون و”فؤاد عجمي”من جامعة جونز هوبكنز!ومن المصادر المهمة لنظرية الفوضى الخلاقة كتاب”قضية الديمقراطية”من تأليف المنشق السوفييتي المهاجر الى اسرائيل والذي شغل منصبا وزاريا في حكومة شارون”ناتان شارانسكي”،وكتاب”اليوت كوهين””القيادة العليا،الجيش ورجال الدولة والزعامة في زمن الحرب”!
ما جرى في العراق منذ عام 2003 في الاطار السياسي يتطابق مع”الفوضى الخلاقة”،والفوضى واللاتعيين هما ما يميزان الواقع السياسي والاجتمااقتصادي العراقي في حركته الداخلية وفي علاقته مع الخارج.ويبدو ان اللعب على وتر الطائفية والولاءات العصبوية دون الوطنية قد ضرب بسهم وافر في المجتمع!ويكاد يكون المدخل المناسب للفوضى”الخلاقة”ونظائرها من آيديولوجيات لا يمكن استزراعها الا في مجتمع تتوافر فيه،بحكم تشكله الاجتماعي/الثقافي،فسيفساء قابلة للعب على تناقضاتها.
تشكلت تحت وصاية الادارة الاميركية حكومتان بعد حاكم مطلق الصلاحية امريكي الجنسية يعاونه مجلس حكم.ولم تلتزم قوات الاحتلال باعادة اعمار سريعة للاقتصاد العراقي ولا باعادة بناء سياسية.كما لم تستنفر الحركات الوطنية العريضة التي تعبّر عن التوجه العميق في الرأي العام الذي ساد بعد ثورة تموز المجيدة عام 1958 وحتى قيام الدكتاتورية البعثية!ولم يصر الى التعاون مع النقابات الاصيلة وكوادر الجيش الذين عانوا القمع الصدامي والذين يجسدون الشعور الوطني العراقي،ولم يستنهض التوجه الاجتماعي العام المعاصر في تعميم التعليم والعلمانية النسبية في التشريع او حقوق المرأة.وكانت الشروط السياسية والاقتصادية والاجتماعية لنمو التذمر الشعبي وسخطه على الحكام الجدد متوفرة منذ المرحلة الاولى للاحتلال فلم يبق سوى الشروط العسكرية التي كانت جاهزة هي ايضا فبرزت التمردات المسلحة وتصاعدت وتيرة الارهاب .
السلطات العراقية تبيح لنفسها وفق مبدأ الفوضى البناءة تبرير الأنقطاعات في التيار الكهربائي وتردي الخدمات العامة والفقر في الاداء الحكومي عموما وتفشي مظاهر الفساد،وترسيخ دولة الفوضى السياسية الدائمة ونهوض الخطابات السلفية والغيبية في مواجهة العلمانية والعقلانية،وسلوك منهج الذرائعية والنفعية الاقتصادية،كما تقوم بذات الوقت في تشجيع الولاءات اللاوطنية والطائفية والعشائرية،وهي نفس القوى التي تتجاوز على الخدمات الحكومية وتسرقها وتستخدمها للأبتزاز السياسي وتنتهج الاستغلال السياسي للدين وتدعم اشباح الدوائر وتسلك الطرق القديمة الحديثة في العكرف لوي..وهذه السلطات غير بعيدة عن غليان التجييش الطائفي في العراق الذي هدد بحرب اهلية قبل اعوام!وتقود ديمقراطية الطوائف والأعراق الى انهيار العقيدة الوطنية الحافظة لمصالح البلاد السياسية- الاقتصادية اي تواصل تفكك التشكيلة الوطنية وابقاءها في حدود العجز عن بناء دولة ديمقراطية مستقلة،واعتماد ديمقراطية منبثقة من التوازن الاهلي المرتكز على الحماية الخارجية وابقاء المشاركة الاجنبية في صياغة المستقبل السياسي – الاقتصادي للعراق!وبالتالي اشاعة ثقافة القطيع والرعية الاقصائية – النهج الخطير في تأطير المجتمع دينيا لأنه يعادل ويطابق تبعيث المجتمع زمن الدكتاتورية،وادلجة السياسة،ومخاطبة المواطن العراقي بمحتويات واجهاتها المذهبية،وتحويل الجوامع والمساجد الى مراكز للتجنيد وتشكيل السرايا والجيوش والفيالق والاثارة وخزن المفرقعات في دور العبادة.يقول المفكر الاسلامي اياد جمال الدين:”ان حراس الفكر الواحد المقبور ودعاة الفكر الواحد الجدد،كلاهما ارهابيان وكلاهما يقتلان النفس البشرية البريئة الآمنة بدون حق وكلاهما يدخلان مزبلة التاريخ ان عاجلاُ أم آجلا”.
وسط الفراغ والفوضى السياسية العارمة،والتمادي في الاستهتار واللاابالية والازمات السياسية المتتالية،وتردي الخدمات العامة ونمو التضخم الاقتصادي وانتشار البطالة والولاءات العصبوية،يتواصل مسلسل القادسيات الايمانية،وينصب المحافظون الجدد انفسهم متحدثين اخلاقيين الى وعن الشعب العراقي،وكأنهم خبراء متخصصين في سلوك وتصرفات هذا الشعب المغلوب على امره،ليحددوا له ما يصح وما لا يصح،ما يناسب وما لا يناسب،وليذكرونا بمهازل خير الله طلفاح!اما محاصرة الاتحادات والنقابات المهنية ومنظمات المجتمع المدني في بلادنا والتضييق على نشاطاتها والتدخل الفظ في شؤونها فلم يؤشر قصور في فهم القوى السياسية المتنفذة وجهل لماهية المنظمات غير الحكومية والحركات الاجتماعية ومنظمات المجتمع المدني فحسب بل أضر بالاقتصاد الوطني والعمل الانتاجي ومجمل العملية الاجتمااقتصادية وتطويرها وخلق اجواء من التوتر وعدم الاطمئنان في المجتمع،واستهان بالحركة الاجتماعية وتجاوز على استقلاليتها بشكل يتعارض مع الدستور باتجاه تسخيرها لخدمة السلطات الحاكمة الجديدة وتحويلها الى بوق في الفيلق الميكافيلي الاعلامي المهلل لها،وتجاهل ارادة الملايين من اعضاء هذه المنظمات!
يؤكد منظرو الفوضى الخلاقة على اعتبار الاستقرار في العراق والشرق الاوسط عائقا اساسيا امام تقدم مصالح الولايات المتحدة في المنطقة،ولابد من اعتماد سلسلة من التدابير والاجراءات الوقائية تضمن تحقيق رؤيتها التي تطمح الى السيطرة والهيمنة على المنطقة التي تمتاز بالعقائدية والغنى بالنفط!وينادي اقطاب نظرية الفوضى الخلاقة باستخدام حتى القوة العسكرية المباشرة وغير المباشرة لتغيير الانظمة في ظل غياب استراتيجيات الردع كما حدث في أفغانستان والعراق والصومال والبوسنة،وتبني سياسة التهديد بالقوة والضغوط السياسية والاقتصادية التي تساهم في تفجير الأمن الداخلي وتشجيع وتأجيج المشاعر الطائفية والعصبوية وتوظيفها في خلق الفوضى!الى جانب احداث التغييرات الضرورية في مناهج التعليم والثقافة،واستخدام الاعلام كدكتاتور اكبر،ودعم وتزعم معظم حركات المجتمع المدني!
هكذا،ينفرد المركز الرأسمالي بمنطق وآليات العقلنة واعمال القانون الاجتماعي العالمي،لتكتسب عقلانيته قوة تصدير اللاعقلنة الى مناطق الاطراف.ومن اشكال لاعقلانيته المعاصرة محاولة فرض المنظمات غير الحكومية باعتبارها منسجمة مع مرحلة تطور الاحتكار العالمي في مجتمعات عصر ما بعد الصناعة.ويحاول الغرب نفي الحركات الاجتماعية بالمنظمات غير الحكومية واحتواء تنظيمات الشبيبة والطلاب،والنساء وحركة الحقوق المدنية لصالح القطاعات الاجتماعية المضطهدة،وحركات السلم والتضامن والرفض الاجتماعية،والنقابات العمالية.ويبدو ان الاحتكار الرأسمالي المعاصر يتحرك في فضاء المجتمع المدني ويوظف المنظمات غير الحكومية في صراعه ضد الحركات الاجتماعية المناضلة.
هذه الوسائل والسبل هي ما تعتمد عليها”الفوضى الخلاقة”،بمنهجية وبرامج”منظمة”..تخلق(الفوضى)في الواقع كرغبة وتوجه للتغيير والتطوير،وفي العقول،وفي انماط التفكير،وفي التوجهات الاجتماعية والسياسية والثقافية،لتسود الفوضى في كل مكان وركن ذاتي وعام،وليتم بعدها(لملمة الخيوط)وخلق نظام جديد من هذه الفوضى السائدة والمنتشرة!

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى