أحوال عربيةأخبار العالم

هل الإمبراطورية الأمريكية بحاجة إلى ظهور كوردستان

د. محمود عباس هل الإمبراطورية الأمريكية بحاجة إلى ظهور كوردستان

في العقد الأخير بدأ الاستراتيجيون الأمريكيون يلاحظون تراجع سيطرتها، وظهور دول متمردة تتفرد بقرارتها، أو تحاول ذلك، إلى درجة التأثير السلبي على مصالحها في المنطقة. تصاعدت المواجهة إلى حد الخلافات على المستويات الإستراتيجية، خاصة مع النمو المتسارع للقوتين الروسية والصينية، وانتشار احتمال ظهور القطب أو القطبين المنافسين للإمبراطورية الأمريكية بعد انهيار القطب السوفييتي، الصراع الذي أدى إلى إعادة النظر في مخطط جغرافيات العالم، ومنها جغرافية الشرق الأوسط وخاصة الدول المحتلة لكوردستان، المتضاربة فيها مصالح القوى الكبرى.

لسنا بصدد دراسة تشعبات هذه الإستراتيجية، والأسلوب الحديث من الصراع بين الدول الكبرى، ما يهمنا هنا تأثيراتها على التحولات السياسية في الشرق الأوسط. فمن البعد الإستراتيجي، يكفي لروسيا خروج الدول من الفلك الأمريكي، حتى دون المواجهة، وأية معارضة لمصالحها انتصار لها وإضعاف للهيمنة الأمريكية.

الإستراتيجية ذاتها استخدمتها أمريكا مع جورجيا وبعض الدول السوفيتية الشرقية سابقا، ومع أوكرانيا، والتي أدت إلى تقسيم الأولى، ومعارك بين الدول الشرقية، وظهور الحرب الروسية-الأوكرانية، أي عمليا، روسيا رائدة الفكرة تعرضت إلى أذيتها، بعدما بدأتها مع تركيا والسعودية ومصر، وسابقاً مع إيران وسوريا، وبعض دول الخليج. ومعظم هذه المخططات، ومن الجانبين، الأمريكي والروسي، تطرح وتنفذ على مستوى مخابراتهم المركزية، وهم من يفتحون الأبواب للعلاقات الاقتصادية، والتحالفات السياسية، ولا شك إدارة الدولتين يحاولون الاستفادة من الإستراتيجية بأقصى ما يملكونه من القوة الاستخباراتية، حتى ولو كانت على حساب الشعوب، ولا يهمهم إن كانت الأنظمة المعنية ديمقراطية أو دكتاتورية، أو مجرمة.

معظم المؤشرات تبين أن من نتائج هذه الإستراتيجية: تغيير الأنظمة، وتقسيم الدول والجغرافيات السياسية، وعلى الأرجح أن جغرافيات الدول الافتراضية في الشرق الأوسط والتي تشكلت على خلفية المصالح البريطانية الفرنسية ستكون الأكثر معنية في العقد القادم من الزمن. فكلا الطرفين المتصارعين يبحثون عن البدائل لأنظمة الدول المتعاملة مع الطرف الأخر، وهو ما أدى إلى بروز فكرة التغيير الجغرافي-السياسي للمنطقة، وخاصة الدول الأكثر عرضة للتناقضات الداخلية، كتركيا وإيران، والعراق وسوريا. وكما ذكرنا، سبقتهم جورجيا والأن أوكرانيا، وعلينا ألا ننسى دول أوروبا الشرقية، وإن لم تفشل روسيا ولم يتم تحجيم قوتها كما هو مخطط، سنرى جغرافية-سياسية أوكرانية مجزأة إلى عدة دول.

وفي حال خسارة روسيا (إدارة بوتين) سنرى تركيا وحكومة أردوغان (في حال صمودها في الانتخابات القادمة) في مقدمة الدول اللاحقة بروسيا، وهي الأكثر عرضة للطعن، على خلفية مواقفها من أمريكا وأوروبا والناتو. إما التغيير في نظامها السياسي أو ربما تقسيمها، أو نقلها إلى النظام الفيدرالي، وظهور الفيدرالية الكوردستانية، وهو ما يتم العمل عليه ضمن إيران وسوريا، مع الأخذ بعين الاعتبار احتمال الفشل، لسببين: الأول، عدم تمكن أمريكا من إضعاف روسيا، ومن ثم نجاح إستراتيجيتها، أي تقسيم الدول المعادية لها كأوكرانيا، وحماية الأنظمة المؤيدة كنظام بشار الأسد وأردوغان وإيران، وجغرافيات دولهم. والثاني: التآكل الداخلي ضمن الحراك الكوردي والكوردستاني، وضحالة الإدراك والوعي، وضعف الرؤية لقادم المنطقة والتغيرات الجارية، حتى ولو كان هذا العامل هشا مقابل الإستراتيجية الأولى، إلا إنه ذو تأثير لا يستهان به على خلفية مصالح الدولتين في المنطقة، واعتمادهم على القوى الكوردية، واستخدامهم كأدوات رئيسة أكثر مصداقية بين قوى المنطقة.

تركيا تقف في مقدمة الدول المعنية، فبعدما كانت تتحرك ضمن فلكها الاقتصادي-العسكري، منذ نهاية الحرب العالمية الثانية، كدولة استراتيجية بالنسبة لمصالح الطرفين، خرجت عن مسارها المعتاد، خاصة عندما وجدت ضالتها في البعدين الإسلامي والعالم التركي على خلفية العزل الأوروبي، حفزتها أكثر التحريض الروسي المتنوع الجوانب، إلى درجة المعارضة المباشرة للمصالح الأمريكية، وعلى أثرها رجح معظم المحللين الدور الأمريكي في عملية الانقلاب على أردوغان، علما أن دراسة مصالح أمريكا وروسيا مع تركيا، تؤكد على أن المخابرات الروسية كانت وراء محاولة الانقلاب، وهم من قاموا بنشر الدعاية على أن أمريكا هي من تقف ورائها، علما أن روسيا ومن خلال علاقاتها مع القوى الإسلامية كانت أقرب إلى كولن من المخابرات المركزية الأمريكية، وبعدها وكخطة راسخة عرضت ذاتها (إدارة بوتين) العرابة المنقذة لأردوغان، على أن مخابراتها اكتشفت المؤامرة، وأبتلع أردوغان الطعم، وخسرت أمريكا أكبر حليف لها في المنطقة.

وعلى خلفية المخطط توسع الشرخ بين تركيا وأمريكا، وتقاربت علاقات أردوغان مع بوتين، سبقتها مسرحية إسقاط الطائرة التركية والرد والخلافات المنتهية بالمصالحة السريعة ومن ثم الصفقة الكبرى والقاصمة للتحالف التركي الأمريكي وهدم صفقة الطائرات ف 35 لتحل محلها صفقة الصواريخ واحتمالية شراء الطائرات الروسية ومن ثمن عقد بناء المفاعل النووي ومد خطوط أنابيب الغاز وتوسيع السياحة وغيرها، ليصعد التبادل التجاري من قرابة 9 مليار دولار إلى 35 والتخطيط لأكثر من 100 مليار في المستقبل، وفي الواقع وعلى المدى الإستراتيجي، رغبة روسيا سياسية عسكرية أكثر مما هي اقتصادية، وهو ما بلغته، لكن العملية أدت إلى ظهور الحرب الأوكرانية، كرد فعل تم التحضير له منذ بداية التقارب الروسي التركي، وهنا تأكدت أمريكا على أنها أمام القطب الروسي الذي لا يمكن الاستهانة به، وأثبتته روسيا وبقوة.

كما وتمكنت روسيا والصين من تحريض دول أخرى، ربما بشكل غير مباشر، وبعمليات استخباراتي معقدة، كالسعودية ومصر، كل بأسلوب مغاير، وإشكاليات مختلفة، وأخرها كانت خفض دول الأوبك-بلس، وخاصة السعودية، لإنتاج النفط، وهي مواجهة مباشرة للمصالح الأمريكية والتحيز لروسيا.

اعتبرتها الولايات المتحدة الأمريكية، تحريض روسي غير مباشر للسعودية والدول المماثلة للطعن في المصالح الأمريكية، والخروج من فلكها، أي أن تملك جرأة إصدار قراراتها، وهو ما صرح به وزيري الخارجية والدفاع السعوديين قبل أيام، على أن المملكة لا ترضخ للإملاءات الأمريكية، ومصالحها فوق كل الاعتبارات، وتملك حرية القرار، وهو ما دفعت بإدارة بايدن بالامتعاض من قرار أوبك عامة والسعودية بشكل خاص، بخفض مليوني برميل من الإنتاج اليومي للنفط، متهمة إياها على إنه انحياز إلى الجانب الروسي، وبالتالي أصبحت الإشكالية مشابهة لما بدأتها تركيا قبل عقد تقريبا، والملاحظ أن المحرض هي روسيا ذاتها التي دعمت تركيا سابقا.

الشعب الكوردي ورغم ثانوية حراكه، خاصة مقابل الدول المذكورة، لكنه ومنذ نهاية الحرب العالمية الثانية، لم يغب عن مسرح الحوارات، إن كانت بين الدول المحتلة لكوردستان، أو التي كانت لها مصالح على جغرافيته. والظروف الدولية الحالية ومصالحهما المتضاربة مع دول المنطقة، أدت بهم إلى إعادة النظر في التقسيمات الجغرافية-السياسية التي تمت في بداية القرن الماضي، وضرورة إعادة تركيبتها، وتعديل رسوم منطقة الشرق الأوسط وفي مقدمتهم جغرافيات التي تعارض الدول الكبرى، والغارقة في الصراعات الدينية والمذهبية والقومية والسياسية وغيرها، وهي التي تحتل كوردستان، وهو ما دفعت بالقوى العظمى على إبراز القوى الكوردية، ودعمها، واستخدامهم أو الإستعانة بهم للإقدام على مخططات تقزيم بعض الدول المتمردة وإعادة رسم جغرافية المنطقة. كلا القوتين، أمريكا وروسيا، مصالحهما فوق كل الاعتبارات، والأساليب متشابهة، وظهور كوردستان لا تتعارض مع مصالح القوتين، في الوقت ذاته تمرد أنظمة الدول المحتلة تجاوزت الخطوط المسموحة لها، كما وتوسعت في أبعاد المواجهة والتأثير السلبي على مصالحهم.

د. محمود عباس

الولايات المتحدة الأمريكية

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى