ثقافة

العدو بين الحقيقة والوهم

وائل يوسف
الآخر من القضايا التي لقت جهودا بحثية، واهتماما ودراسة واسعة على المستوى العالمي والعربي، هدفت هذه الجهود إلى البحث عن إجابة على كثير من الأسئلة المتعلقة بالآخر مثل ما هي الهوية؟؛ وما هو الآخر؟؛ وما هي مشكلتنا معه؟؛ وهل نستطيع تقبله؟؛ وما هو أصل العداء بيننا وبينه؟، وعلى الرغم من أني أعلم أن هناك أسئلة تعيش أكثر من إجاباتها لكن سوف أطرح هذه الأسئلة للنقاش في السطور التالية مستعيناً بآراء بعض المهتمين بقضايا الآخر مثل صمويل ب.هنتنجتون على المستوى الغربي، وجابر عصفور وميلاد حنا على المستوى العربي لعل يُكونِّ القارئ رؤية عن قضية الآخر ومحدداتها.
الهوية
الهوية مصطلح متعدد المكونات ولهذا اختلف الباحثون في تحديد معنى هذا المصطلح ومكوناته ومحدداته، و يحدثنا هنتنجتون – وهو من علماء السياسة البارزين في الولايات المتحدة – عن مفهوم الهوية بقوله إن “مفهوم الهوية هو أمر لا يمكن الاستغناء عنه، وإنه غير واضح بالقدر نفسه”. والهوية متعددة الأوجه، ومن الصعب تعريفها وتجنب عديد من وسائل القياس، وقد وصف أكبر عالم للهوية في القرن العشرين “إريك إريكسون Erik Erikson” المفهوم بأنه منتشر في كل مكان ولكنه غامض ولا يمكن سبره. وقد ظهر جليا عدم إمكان تجنب الهوية بشكل يدعو للحنق في مؤلف للمنظر الاجتماعي المتميز “ليون وايزلتير Leon Wieseltier”. فقد نشر عام 1996 كتاب بعنوان “ضد الهوية Agailnst Identity”، استنكر فيه وسخر من إعجاب المثقفين بهذا المصطلح.
وإذا كانت الهوية لا يمكن تجنبها، فكيف نعرفها؟؛ لدى الباحثين إجابات عديدة، ولكنها مع هذا تدور حول موضوع مركزي واحد. الهوية هي شعور فردي أو جماعي بالنفس. وهى نتاج للوعي بالذات، بأني أو أننا نمتلك صفات مميزة كهوية تجعلني مختلفا عنك، وتجعلنا مختلفين عن الآخرين. والطفل المولود حديثا قد يمتلك عناصر من الهوية عند الميلاد خاصة بالاسم، والجنس، والأبوين، والجنسية. ومع هذا فإن هذه العناصر لا تصبح جزءا من هوية الطفل سواء أكان ذكرا أو أنثى إلا بعد أن يعي بها وأن يحدد نفسه طبقا لها، والهوية كما عبر عنها مجموعة من الباحثين تشير إلى صورة الفردية والتميز (الذاتية) التي يحملها ممثل ويعرضها ويشكلها (وتتعدل مع الزمن) من خلال علاقات مع آخرين مهمين، وطالما أن الناس يتفاعلون مع الآخرين فليس أمامهم اختيار إلا أن يحددوا أنفسهم في علاقتهم بهؤلاء الآخرين وأن يتعرفون على أوجه الشبه والاختلاف مع هؤلاء الآخرين.
الآخر
من هو الآخر؟؛ هل هو من يختلف معي في الأصل والدين والفكر واللغة والثقافة واللون وغيرها من الخصائص الأخرى؟، فهناك من يتفق معي في الأصل والدين واللغة واللون وكثير من الخصائص، ولكن يصبح بالنسبة لي آخر. إذن ما هي نقطة الخلاف والبداية في ذات الوقت التي ينطلق منها الإنسان ويرى الشخص الذي أمامه آخر غريب عنه، وهذا ينطبق على الأفراد والجماعات والشعوب، فعندما تحدث مقارنات بين الأفراد والجماعات يتولد إحساس بالشعور بالغيرة لدى أفراد كل جماعة ومن هنا تصبح الجماعة الأخرى التي هي واقعة موقع المقارنة مع الجماعة الأولى موضع الآخر ويبدأ الدفاع عن الهوية من قبل كل من الجامعتين، فالهوية تتطلب المفاضلة، والمفاضلة تتطلب المقارنة، والتعرف على الوسائل التي تجعل “جماعتنا” تختلف عن “جماعتهم”، والمقارنة بدورها تولد التقويم؛ هل وسائل جماعتنا أفضل أم أنها أسوأ من وسائل جماعتهم؟ والأنانية الجماعية تؤدى إلى التبرير. إن وسائلنا أفضل من وسائلهم. ولما كان أعضاء الجماعة الأخرى يقومون بعملية مماثلة، فإن التبريرات المتناقضة تؤدى إلى المنافسة، وعلينا أن نظهر تفوق وسائلنا على وسائلهم، والمناقشة تؤدي إلى العداوة والى توسيع الهوة لما قد يكون قد بدأ على أنه خلافات ضيقة لتصبح خلافات عميقة وأساسية، ويتم خلق القوالب النمطية، ويوصف الخصم بأنه شيطان، ويتم مسخ الآخر ليصبح عدواً.
البحث عن العدو أو الآخر
من الممكن أن يبحث الإنسان عن الآخر لكي يشعر بذاته ويتم المقارنة بينهما، فيشعر بقوته ووجوده وهى طبيعة إنسانية غريزية تقود الإنسان – أحيانا – إلى الدخول في حروب متعددة. كتب “ألبرت أينشتاين Albert Einstein” إلى “سيجموند فرويد Sigmund Freud” عام 1993، فقال إن كل محاولة لإنهاء الحرب “قد انتهت بفشل ذريع.. فالإنسان لديه في داخله شهوة للكراهية والتدمير”، وقد وافق فرويد على أن الناس مثل الحيوانات فهم يحلون المشكلات باستخدام القوة، ولا يمكن أن يمنع ذلك من الحدوث سوى دولة عالمية في يدها كل القوة. كان هذا هو رد فرويد، وأضاف فرويد أن البشر لديهم نوعان من الغرائز:”تلك التي تسعى للبقاء والوحدة .. وتلك التي تسعى للتدمير والقتل”، وهذان النوعان من الغرائز جوهريان ويعملان معا، ومن هنا فلا جدوى من محاولة التخلص من الميول العدوانية للبشر، كما ينقل لنا هنتنجتون قول لجنة من الأطباء النفسانيين الذين قالوا “أن جزءا من كون الإنسان إنسانا كان دائما البحث عن عدو لتجسيد مؤقت أو دائم للجوانب من حياتنا التي نتنصل منها”. وجميع نظريات أواخر القرن العشرين مثل نظرية التميز ونظرية الهوية الاجتماعية ونظرية البيولوجية الاجتماعية والخصائص، إنما تدعم النتيجة بأن جذور الكراهية، والمنافسة، والحاجة إلى الأعداد، وعنف الأفراد والجماعات، والحرب بشكل حتمي في علم النفس الإنساني والوضع الإنساني، كما يقول المؤرخ “مايكل هوارد MichaelHoward”: لا يمكن لأمة بالمعنى الحقيقي للكلمة أن تولد بدون حرب .. ولا يمكن لمجتمع واع بذاته أن يجعل من نفسه لاعبا جديدا ومستقلا على المسرح العالمي بدون صراع مسلح أو تهديد بصراع مسلح، والناس شعورهم بالهوية القومية أثناء حربهم وهم يميزون أنفسهم عن شعب آخر لغةً أو ديناً أو تاريخاً أو موقعاً مختلفاً.
إن حاجة الأفراد إلى احترام الذات يؤدي بهم إلى الاعتقاد بأن جماعتهم أفضل من غيرها من الجماعات، وشعورهم بالذات يرتفع وينخفض تبعا لحظوظ الجماعات التي ينتمون إليها وتبعا لاستبعاد الناس الأخرى من جماعتهم.
أصل عداء الآخر
يتحدث ميلاد حنا – مفكر مصري مشهور – عن الثقافة للشعوب بقوله الثقافة هي الكل المعقد المتشابك من أساليب الحياة الإنسانية، المادية وغير المادية معا، أي الفكرية والمعنوية والروحية التي ابتدعها الإنسان واكتسبها وسيظل يكتسبها عبر رحلة الحياة، وللثقافة جانبان، روحي أي غير مادي وهو الذي يضم القيم والمعايير والنظم والمعتقدات والتقاليد، أما الجانب المادي فهو التجسيد الملموس للجانب الروحي أو المعنوي فيما يصاغ من أدوات ومنشآت وما إليها وهو ما يسميه (حضارة)، وتتفاعل ثقافة المجتمعات المختلفة على كلا الجانبين المادي والروحي، ومن التفاعل تنشأ ثقافات جديدة تتعاقب على كل مجتمع أو أمة لأن الثقافة ليست ثابتة جامدة، فليس لكل مجتمع أو أمة ثقافة واحدة لا تتغير على مر العصور، ويقدم لنا جابر عصفور نبذة عن العداء الثقافي للآخر بقوله إن كان العداء لتجليات “الآخر” في هذا السياق، وجها آخر من معاداة نوع “العقل” الذي أثارته ثقافات هذا الآخر، وزادته جسارة في اقتحام ما لم يكن ينبغي اقتحامه، وإنطاق المسكوت عنه الذي كان يفترض كتمانه، ولذلك تم إيقاع نوع من التطابق بين ثقافات “الآخر” والنزعات العقلية المستعينة بها، وذلك في التعارض نفسه الذي وضع أهل النقل في مواجهة أهل العقل، وبقدر ما أصبح أهل العقل أتباع الآخر، في سياق العداء لكل ما يهدد الأنساق الفكرية المتوارثة، أصبح أهل النقل أنصار الأصالة المقترنة بنقاء الهوية العرقية في بعض الأحيان، ونقاء الهوية الدينية في كل الأحوال، وبقدر ما كان هجوم أهل النقل على أهل العقل ضروريا لحماية العقيدة من بدع الضلالة من وجهة نظرهم، كان الهجوم على تجليات الآخر الثقافية ولوازمها الاعتقادية لازمة من لوازم الدفاع عن العقيدة والهوية المتأولة بنصوصها.
أهمية الهوية
هل للهوية أهمية بالنسبة للأفراد والشعوب؟؛ وما هي هذه الأهمية؟، هنا يأتي قول هنتنجتون عن أهمية الهوية فيقول أن الهوية مهمة لأنها تشكل سلوك الناس، فإذا كنت أفكر بأنني عالم فإنني سأتصرف كعالم ولكن الأفراد يمكنهم أيضا أن يغيروا هوياتهم وإذا بدأت في التصرف بشكل مختلف – باعتباري مجادلا مثلا- فإنني سأعنى من التنافر الإدراكي ومن المحتمل أن أحاول أن أريح نفسي مما يحدثه ذلك من عناء بأن أتوقف عن هذا السلوك، أو أن أعيد تعريف نفسي من عالم إلى داعية سياسي، وهنا العديد من النقاط الرئيسية الخاصة بالهوية والتي تحتاج إلى توضيح؛ أولا: للأفراد كما للجماعات هويات، ومع هذا فإن الأفراد يجدون هوياتهم ويعرفونها في جماعات.
ثانيا: إن الهويات، يتم تشييدها بشكل غالب، فالناس يضعون هويتهم تحت درجات متباينة من الضغط والبواعث والحرية، وفى كثير ما يستشهد بها “بنديكت أندرسون Benedic Anderson”، نجده يصف الأمم بأنهاً مجتمعات يتم تخيلها، فالهوية هي ذوات متخيلة بمعنى أنها هي ما نعتقد أنه نحن، وما نريد أن نكون عليه.
ثالثا: للأفراد كما للجماعات إلى حد ما هوية متعددة. وهذه قد تكون إسنادية أو إقليمية، أو اقتصادية، أو ثقافية، أو سياسية، أو اجتماعية أو قومية. والسمة البارزة النسبية لهذه الهوية فيما يتعلق بالفرد والجماعة يمكن أن تتغير من وقت لآخر ومن موقف لآخر.
رابعا: يتم تحديد الهوية بمعرفة الذات ولكنها نتاج التفاعل بين الذات والآخرين، كيف يتصور الآخرون، فردا أو جماعة، وهو الذي يؤثر على التعريف الذاتي لهذا الفرد أو الجماعة.
خامسا: إن السمة البارزة النسبية للهوية البديلة لأي فرد أو جماعة هو أمر يتعلق بالمواقف، ففي بعض المواقف يشدد الناس على هذه السمة من هويتهم التي تربطهم بالشعب الذي يتفاعلون معه، وفى مواقف أخرى، فإن الناس يؤكدون تلك السمة من هويتهم التي تميزهم عن الآخرين، وقيل إن أخصائية نفسية إذا وجدت نفسها بين مجموعة من الأخصائيين النفسيين فإنها ستنظر إلى نفسها كامرأة، أما إذا كانت في صحبة حفنة من النساء من غير الأخصائيات النفسيات، فإنها ستنظر إلى نفسها كأخصائية نفسية.
الوعي بالذات و وهم عداء الآخر
إن فكرة الانتماء للهوية والجماعات فكرة مقبولة لدى الجميع لأنها تبنى عليها الهوية الذاتية، وكذلك الهوية الجماعية، وبالتالي تبذل الأمم جهوداً كبيرة لكي تُولد وتنمو وتزدهر وتصبح واعية بذاتها، وأتفق مع ميلاد حنا في قوله أن عبر رحلة الحياة تتكون لدى كل منا العديد من الانتماءات، بعضها موروث أي ليس للفرد فضل أو اجتهاد أو رغبة أو نضال في الحصول عليها، في مقدمتها الانتماء إلى الأسرة أو القبيلة أو الدين أو المذهب وصولاً إلى الانتماء الوطني، ويختلف درجة حماس أو فتور الانتماء الموروث على عوامل شتى، ولكنها في بداية الأمر ونهايته، هي هذه المادة الأسمنتية التي تربط بين حبيبات الرمل من البشر فتكون منهم كتلة خرسانية متماسكة، وكلما كانت ثقافة هذا الانتماء مزدهرة ومنتعشة سياسياً واقتصادياً كلما كانت قوة التماسك بين الحبيبات أقوى وتنتج نوعية خرسانة عالية الجودة، أي مجتمعاً متماسكاً غير مفكك، ولكن فكرة عداء الآخر لمجرد أنه مختلف معي في بعض الخصائص أو حتى معظم الخصائص فكرة غير مقبولة – في رأى الكاتب – لأن كل من يختلف معي فهو ليس بالضرورة عدو لي وأعتقد أن هناك أفراد وجماعات وشعوب تتلذذ بالعيش في دور الضحية بشكل مستمر؛ ضحية الآخر الذي ربما لا يكون موجوداً في الأساس وعلى الجانب الآخر من الممكن أن يكون – الآخر – موجود ولديه مخطط لإفشال الشعوب والجماعات، ولكن هذا ليس مبرراً لدى الجماعات والشعوب لتعليق كل الإخفاقات والفشل في المجالات المتعددة على عداء الآخر. إن المجتمعات الغربية مرت في فترة من الزمن بعصور الجهل والظلام وكانت الدول العربية في هذه الحقبة التاريخية في عصور التنوير والثقافة ونحن –العرب – وهم –الغرب – مختلفان في كثير من الخصائص، ولكن وكان عليهم – الغرب – تقبل الآخر –العرب – وتعلموا منه في تلك الحقبة من الزمن وبدأت عجلة الزمن تدور وها نحن حاليا (العرب) نقف موقفا معاكساً من موقف الدول الغربية في تلك العصور –مع فارق الزمن والمقارنة- لا نستطيع نسبيا تقبل الآخر أو التعلم منه ونداري على كثير من الإخفاقات على مستويات كثيرة ونعلقها على الآخر واستهداف هذا الآخر لنا، ومع العيش والتعايش في هذه المبررات والشعور العميق بأننا ضحايا، جعلنا نُصدق ما ندعيه لأن الغرب ليس بهذه القوة المتخيلة وعندما يريد الإنسان والأمم والشعوب أن تفعل شيئاً أو تحقق هدفاً بعزيمة وإيمان خالص سوف تفعل هذا بجدارة. كتب كاتب أمريكي مقولة عن الشعوب العربية قال فيها أن الشعوب، العربية تعمل على هدم الغير أكثر من العمل على نجاح أنفسهم؛ هذا على مستوى الشعوب، أما على مستوى الأفراد فقال العالم المصري الكبير أحمد زويل أن الغرب ليسوا عباقرة ونحن لسنا أغبياء، هم فقط يدعمون الفاشل حتى ينجح ونحن نحارب الناجح حتى يفشل. إذن نحن نستطيع … إذا أردنا ذلك لأن عداء الآخر لنا المختلف عنا ليس موجودا إلا في عقولنا فقط.

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى