رأي

العبقرية …

محمد عبد الكريم يوسف
العبقرية ليست نبعا مسحورا تخرج منه الأفكار المبدعة والألق والتفوق وشياطين الفكر
والمعرفة ، والعبقرية قبل أن تكون هبة من السماء وموهبة ، كانت عملا كاملا متكاملا دائبا ،
غزل دماء ومزقة شرايين وذبحة صدرية .
وعندما تسأل عبقريا عن تاريخه العلمي الطويل يخرج عليك بالدعاء اليومي قائلا : ” لو خيبتنا
الحياة . لو أن كل شيء نقوم به يذهب هباء منثورا . علينا أن لا نيأس ، وأن نأخذ أمثلة من
أناس عباقرة صادفوا الكثير من الأهوال والصعوبات ورغم ذلك نجحوا وحققوا تقدما في الحياة
عبر المثابرة والاصرار على النجاح . ويمكن أن نأخذ الكثير من الأمثلة على هؤلاء بدءا من
بطليموس وكوبرنيكوس وسقراط وأفلاطون وأرسطو والفارابي وابن سينا وابن النفيس وابن
المقفع . كلهم واجهوا الكثير من الصعوبات ورغم ذلك تغلبوا عليها “
لنأخذ مثلا من الحياة التي نعيشها ونتأمل ” التفاحة ” . هذه الفاكهة اللذيذة أسقطت أدم من الجنة
لأنها كانت أكسير المعرفة والادراك والتمييز وعلمت أدم وحواء أسرار الحياة وأسرار المتعة
وكانت السقطة الكبرى من جنة عدن إلى الأرض حيث الشقاء والجهد والتمرد وعدم الرضى .
وعلمت هذه ” التفاحة ” نيوتن قانون الجاذبية والأوزان وكانت نافذة للمعرفة مجددا دفعت
الإنسان نحو الأمام ونحو اكتشاف عوالم جديدة لا تنتهي . وغيرت موقع الأسطورة من الماضي
البعيد إلى المستقبل . لقد كانت الأساطير خلفنا نتلقاها في حكايات الأجداد أما اليوم فصارت
الأساطير أمامنا تأتينا من المستقبل في اختراعات أولادنا وأحفادنا . لقد غير قانون الجاذبية
الكثير من القيم المعرفية في حياة البشر ونقلهم إلى عوالم جديدة لم تكن معروفة من قبل .
تشارلز داروين أطلق كتابه الغريب أصل الأنواع في غفلة من الزمن أعمل فيها تفكيره .وقد
كان هذا الكتاب بحق سهما من الشك انطلق ولم يكن بالإمكان إعادته إلى القوس . لقد أسس
دارون الفكر الحديث في نظرية التطور وعلى نفس الطريق سارت مدام كوري في سبيل
اكتشاف الراديوم وعلى نفس الطريق سار أبو فراس الحمداني وأبو الطيب المتنبي والامام علي
و الصادق والبدوي وشكسبير ومارلوو بودلير و دوستوفسكي وبيتهوفن و شوبرت و شوبان .
كل هؤلاء العباقرة استحموا بلهاث القلق والفاقة والفقر وغزل الدموع . قارعوا القدر وتحولوا
إلى حكايات والحكايات لا تموت لأنها جزء من ذاكرة البشرية الحية . إنه الخلود .
وفي اطار الصراع بين القدر والعبقرية ، تروي الحكايات أن دانائيد رزق بخمسين بنتا زوجهن
كلهن في ليلة واحدة لكنهن قتلن أزواجهن دفعة واحدة ليلة العرس فعاقبهن الإله أن يبقين في
هيدز حتى يملئن برميلا مثقبا لا قعر له . أما أوديب وأيوب فهما من رموز الألم الانساني
وسخرية القدر ورغم ذلك لم يستسلموا وقاوموا واجتهدوا حتى الرمق الأخير . لا يمكن أن
يضيع عمل مهما ضؤل . تراث الانسانية صنعه مجموعة من المجتهدين المواظبين من فلاسفة

وصناع مهرة ومعلمين وفلاحين بدءا من الفكر والاهرامات والنسيج والورق والزجاج والخزف
والاستخلاص والموسيقا والأغاني الشعبية ومواويل الرعاة وانتهاء بالنانو تكنولوجي والفيزياء
الكمية .
هناك دوما فرصة للجديد والاستدامة .
هناك دائما فرصة لإثبات الفرضيات عبر التجريب.
وحده الخوف من يقف عائقا في وجه التطور والتقدم .
يمكنك أن تشق دربا ريفية صغيرة وجميلة على المنحدر وتسير فيها .
أليست سفرة الألف ميل تبدأ بخطوة يا صديقي الأزلي ؟

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى