إقتصادفي الواجهة

العالم بحاجة لإعادة النظر في المنظومة الصحية

الطاهر المعز

يُعتبر إنتاج الأدوية من أكثر الأنشطة الصناعية ربحًا، حيث يصل هامش الربح إلى 35% فيما يتراوح هامش ربح القطاعات الصناعية الأُخرى بين 12% و 17% وتُعلّل الشركات هذا المُعدّل المرتفع بإنفاق أنها مبالغ كبيرة، ولعدّة سنوات على البحث العلمي قبل ابتكار علاج جديد، وفي الواقع فهي تترصّد ابتكارات الشركات الصّغيرة لتستحوذ عليها بأبخس الأسعار، كما تشتري براءات الإختراع من المختبرات والشركات الصغيرة، وتُعول على المال العام ومؤسسات ومختبرات البحث العلمي للجامعات والمُستشفيات العمومية للإستحواذ على نتائجها بدعم من الحكومات.
سجل سوق الأدوية العالمي، سنة 2020 (سنة كوفيد)، نموًا بنسبة 8% مُقارنة بسنة 2019، بإيرادات بلغت 1 تريليون دولار، وتمثل الولايات المتحدة 46% والاتحاد الأوروبي 24% من قيمة هذه السوق العالمية للأدوية، بينما تمثل المجموعات الصيدلانية الخمس الأولى 22% من السوق العالمية، وتَتَرّكز الشركات في الدّول الرأسمالية العريقة، فمن بين أكبر عشر شركات أدوية في العالم ، تُشكل الشركات الأمريكية نصفها (أبفي وبريستول مايرز وجونسون آند جونسون وميرك وفايزر)، وتوجد شركتان سويسريتان (نوفارتيس وروش) وواحدة بريطانية واحدة (جلاكسو سميث كلاين) وشركة فرنسية واحدة (سانوفي) ويابانية واحدة (تاكيدا)، واستحوذت خمس شركات أدوية كبرى (Johnson & Johson و Pfizer و Merck و GSK و Sanofi) على 80% من السوق سنة 2020، ويبلغ معدّل هامش الربح 28% في المتوسط ، الأمر الذي يجذب المستثمرين.
تُهيمن شركات الأدوية العابرة للقارات على علاج الأمراض المُزمنة، حيث لا يُشفى المُصاب بل يتناول طيلة حياته الأدوية التي تُحسّن حاله (ولا تُشفيه) وتُطيل عُمره بضع سنوات، هي أرباح إضافية لشركات الأدوية، وإذا ما حاولت شركة صغيرة أو مُختَبَر اكتشاف علاج نهائي يُشفي مرض السّكّري أو الشرايين أو الملاريا (حُمّى السباخ) تشتري الشركات الكبيرة تلك الإبتكارات لتبقيها في الرّفوف أو سلّة المُهملات، بُغْيَة المُحافظة على أرباحها من بيع الدواء طيلة حياة المريض…
بدأ صعود صناعة الأدوية الحديثة بنهاية القرن التاسع عشر، مع نجاح تسويق الأسبرين والهيروين من قِبَلِ شركة باير الألمانية، بينما كانت المختبرات الأمريكية تطالب بـ “حماية براءة الاختراع”، أي الحق الحصري في تسويق دواء لفترة معينة من الزمن، ولم تحصل على هذا الإمتياز سوى خلال عقد الخمسينيات من القرن العشرين، وسرعان ما أصبحت الولايات المتحدة أكبر سوق للعَقاقير، حيث حصلت المختبرات الأمريكية أيضًا على حق نشر الإعلانات الإشهارية والإتصال المباشر بالأطباء و “المستهلكين”، ما جعل من الدّواء سلعة “عادِيّة”.
في بداية القرن الواحد والعشرين أصبحت صناعة الأدوية واحدة من أكثر القطاعات ربحية في العالم، وذلك بفضل بيع المضادات الحيوية والأدوية المُخَفِّفَة للألم، والتي تسمح بإطالة عمر المرضى الذين يعانون من الأمراض المزمنة، كما أصبحت بعض أنواع السرطان قابلة للشفاء فيما لا تزال أخرى غير قابلة للشفاء…
تفنّنت شركات الأدوية الكبرى في المُراوغة والتّهرب من الضرائب، وأشار تقرير صادر سنة 2018 عن منظمة أوكسفام إلى أن صناعة الأدوية ترتكب “احتيالًا ضريبيًا بمليارات الدولارات”، ونشرت منظمة الصحة العالمية تقارير عن الاحتكار الذي تُعَزِّزُهُ براءات الاختراع، وكذلك الأسعار المرتفعة للغاية لبعض الأدوية، مثل بعض علاجات السرطان، وتدعي الشركات متعددة الجنسيات في قطاع الأدوية أن الأسعار المرتفعة تستخدم لتمويل الأبحاث، بينما يتم تمويل الأبحاث في واقع الأمر من المال العام، ورغم المُخالفات والتجاوزات العديدة، نادرًا ما تمت إدانة شركات الأدوية، مثلما حصل مع (Pfizer و Johnson & Johnson و Merck) التي أدينت بـ “الترويج غير القانوني، والإدعاءات الكاذبة والمضللة بشأن سلامة الأدوية، وتقديم رشاوى للأطباء والباحثين…
يشير تقرير من الأكاديمية الوطنية للعلوم (الولايات المتحدة) إلى مخاطر التقارب بين الأطباء والمختبرات، فقد يُشكّل هذا التقارب خَطَرًا، بل تهديدًا لنزاهة العلم وموضوعية التدريب وجودة الرعاية ويُسبب اهتزاز ثقة الجمهور في الطب.
نشرت مجلة علمية بريطانية، سنة 2020، دراسة أظهرت أن نحو 80% من المهنيين ورؤساء أقوى منظمات الأطباء يتلقون أموالًا من شركات الأدوية والمعدات الطبية، بعنوان مكافآت مقابل البحث والإستشارات والخدمات المقدمة، وحتى الوكالات المسؤولة عن تقييم الأدوية، مثل إدارة الغذاء والدواء الأمريكية ، تلقّت تمويلات من صناعة الأدوية…
تستحوذ الشركات الكبرى على الشركات التي تبتكر أدوية، إما لاستغلال عمل باحثيها واستغلال الإبتكارات الجديدة إذا كانت مربحة، أو لإبقائها في الرُّفُوف، لكي لا تنافس الأدوية القديمة المُربحة لأن شركات الأدوية هي مؤسسات رأسمالية تهتم بالأمراض المربحة، مثل بعض أنواع السرطان والأمراض الوراثية التي تتطلب علاجات طويلة المُدّة ومرتفعة الثّمن.
تمكن فريق أمريكي من باحثي السرطان في جامعة بنسلفانيا، سنة 2016 من ابتكار علاج لسرطان الدم الليمفاوي الحاد (سرطان الدم الأكثر شيوعاً لدى الأطفال)، وتم تصنيعه من قِبَل شركة “نوفارتيس” السويسرية، واستخدامه في البلدان الغنية بداية من سنة 2017، لكن لا يستفيد مواطنو البلدان الفقيرة من الإبتكارات والأدوية الجديدة، وحتى القديمة إن كانت مرتفعة الثّمن، وعلى سبيل المثال، يُشْفى حوالي 80% من الأطفال المُصابين بمرض السرطان في البلدان الغنية، فيما تنزل النسبة إلى 10% فقط في البلدان الفقيرة، وحتى متوسّطة الدّخل، لأن سعر حقنة واحدة من هذا العلاج بلغ قرابة الخمسمائة ألف دولارا، فيما تبلغ تكلفة علاج أنواع السرطان الأقل تعقيدًا نحو مائتَيْ ألف دولارا سنويا، وهو مبلغ مرتفع مقارنة بمستوى دخل المواطن في بلدان إفريقيا وآسيا وأمريكا الجنوبية، حيث يفتقد الناس إلى التّأمين الصّحّي، وأظْهَرت بيانات منظمة الصحة العالمية أن السرطان قَتَل نحو عشرة ملايين شخص، سنة 2020 منهم 70% من الدّول الفقيرة…
إذا كانت تكلفة الإبتكارات مرتفعة فإن الدّول الرأسمالية المتطورة تدعم الشركات العابرة للقارات بمساعدات وإعفاءات جبائية وأشكال أخرى عديدة من الدّعم، إذ ارتفع الإنفاق العالمي على أدوية السرطان من قبل الحكومات وشركات التأمين الصحي والمرضى، سنة 2021، بنسبة 12% ليبلغ نحو 185 مليار دولار ويُتوقع أن يصلَ إلى 300 مليار دولار سنة 2026، وفق تقرير نَشَرَهُ موقع معهد “إيكويفيا” ( iqvia )، فيما ارتفعت قيمة إيرادات الشركات المُسَوِّقَة لعلاجات الأوْرام السّرطانية من 52,8 مليار دولارا سنة 2010، إلى 103 مليار دولار سنة 2019، وتُقدَّرُ نسبة هامش الرّبح لبعض أدوية السرطان التي لا تزال تحت براءة اختراع ما بين 40% و 90% من سعر البيع، فكيف تستطيع الدّول التي لا يبلغ الدخل السنوي لمواطنها عشرين أو ثلاثين ألف دولارا شراء هذه الأدوية لمعالجة مواطنيها، إن توفّر استعداد الحكومات للإهتمام بصحة المواطنين…
يُساهم التمويل العمومي (الحكومي) للبحث العلمي في زيادة أرباح شركات الأدوية العابرة للقارات، ويُساهم تواطؤ حكومات الدّول الفقيرة في تيسير تجربة اللقاح على مواطني البلدان الفقيرة التابعة، والترخيص بتسويق بعض اللقاحات قبل استكمال جميع مراحل التجارب والتّقويمات للتأثيرات الجانبية…
من جهة أخرى، تستفيد شركات الدول الإمبريالية، ومنها الشركات الأمريكية والأوروبية، من قرارات مجموعة العشرين ومجموعة السبعة، ومنظمة التجارة العالمية بشأن “حماية حُقُوق الملكية”، أو “الحُقُوق الفِكْرِية” ( TRIPS )، وهي “حُقُوق” تخلق عراقيل أمام الدّول الفقيرة التي ترغب تصنيع نُسخة رخيصة من الأدوية أو اللقاحات، لأن هذا “الإنتاج” (أي الأدوية الأساسية) يُعْتَبَرُ “ملكيةً فكْرِيّة” للشركات الإحتكارية العابرة للقارت، التي اشترت براءة الإختراع أو طَوّرت الدواء أو اللقاح، لتفرض بذلك أسعارًا مُرْتَفِعَةً، ما يجعل من صحة وحياة البشر، وكذلك الغذاء والدّواء، مادّة، أو مُنتَجًا، أو سلعة خاضعة لقانون السّوق ويمكن الإتجار بها كأي سلعة أخرى، وهو ما يحول دون إنقاذ البشر، والوقاية من الأوبئة ومن الأمراض المُعْدِيَة، وما يسمح “بالتضحية بحياة الشعوب الفقيرة المحتاجة للقاحات والأدوية”، بغرض تحقيق مزيد من الأرباح وتوزيعها على أصحاب الأسْهُم”، بحسب تقرير منظمة “أوكسفام” (2019)…
تعمل شركات الأدوية، مثل أيٍّ من الشركات الإحتكارية الأخرى، على تنمية أصولها المالية، وإنشاء شركات وهمية، في الملاذات الضّريبية، لتفوق قيمتها الأُصول الثابتة، أو رأس المال الثابت (المصانع والآلات والتجهيزات)، واستثمار هذه الأصول المالية في الأسواق المالية، وفي عمليات الاندماج والاستحواذ التي تعزّز مكانتها في قطاع المختبرات وصناعة الأدوية، وأشار تقرير “المركز الهولندي للأبحاث حول الشركات متعدّدة الجنسيات” ( SOMO ) إلى زيادة الإحتياطات النقدية المُجَمّعَة بين سَنَتَيْ 2000 و 2018، لسبع وعشرين شركة من قطاع صناعة الأدوية، من 83 مليار دولار، سنة 2000 إلى 219 مليار دولارا، سنة 2018، وبَرعَت الشركات الأمريكية للأدوية في التّهرب من الضرائب، وإخفاء مبالغ مالية ضخمة في الملاذات الضريبية، أو عبر إنشاء الشركات الوَهْمِيّة، ورفعت هذه الشركات من دُيُونها، بشكل مُصْطَنَع، من 61 مليار دولار سنة 2000 إلى 518 مليار دولار، سنة 2018، ولم تتجه هذه المبالغ المُقْتَرَضَة نحو الإستثمار في الإنتاج، أو البحث العلمي، وإنما نحو عمليات التّوسّع المُستمر، ولشراء الأسهم، والإستحواذ على شركات أخرى، وأصبحت هذه الشركات تجني الأرباح (لتوزيعها على مالكي الأسهم) من حقوق “المِلْكِيّة الفِكْرِيّة”، ومن الزيادات الكبيرة في سعر اللقاحات والأدوية، ومن المال العام، وتعتبر هذه الشركات أنها غير مَعْنِيّة بموضوع الصّحّة العامّة، وغير معنية بشفاء المُصابين، بل معنية بتحقيق أكبر قدر من الأرباح، وتوزيعها على أصحاب الأسهم، لترتفع قيمة هذه الشركات في السوق، ولتجتذب الإستثمارات، وأصبحت هذه الشركات تُمثّل عقبة في طريق البحث عن اللقاحات التي تُجنّب العالم انتشار الأوبئة، مثل وباء “كوفيد 19″، وذلك رغم استفادة هذه الشركات (من خلال الحكومات ) من المال العام، كما رفضت شركات كبرى للأدوية المُشاركة، سنة 2017، مع منظمة الصحة العالمية في برنامج تطوير لقاحات للقضاء على بعض الأمراض المُنتشرة في إفريقيا وآسيا، وشكل انخفاضُ العائداتِ المالية (الأرباح ) السّبَبَ الرئيسيَّ للرّفض، بحسب صحيفة “نيويورك تايمز” (03 آذار/مارس 2020)…
تعتبر منظمة الصحة العالمية، أن صحة البشر حق أساسي من حقوق الإنسان، ولا تُقاس بغياب المرض فقط، بل هي “حالة من الرفاه البدني والعقلي والاجتماعي الكامل”، لكن خصخصة قطاع الرعاية الصحية وخفض الإستثمارات الحكومية، وغير ذلك من القرارات السياسية، تسببت بتدمير قطاع الصحة العامة والمُستشفيات العمومية، والوقاية، فأصبح القطاع العام عاجزًا عن مواجهة الطوارئ والأوبئة، فيما يعتبر القطاع الخاص أنه مَعْنِيٌّ فقط بتحقيق الأرباح وتوزيعها على مالكي الأسْهُم، في ظل النظام الرأسمالي الذي ضَخّت حُكوماته ( التي تُمثّل مصالح الإحتكارات) المال العام في خزائن المصارف والشركات الكبرى، ومنها شركات المُختبرات وتصنيع العقاقير، وخفضت ميزانية البحث العلمي (باستثناء البحوث ذات الصبغة الأمنية والعسكرية) واكتشاف أو تطوير لقاحات الوقاية وأدوية علاج العديد من الأمراض، ما يُعرّض الإنسانية لمزيد من المَخاطر، وفي المقابل استفادت الشركات الخاصة من المال العام، لِتُساهم الحكومات في تأميم خسائر ومخاطر الشركات الخاصة، وخصخصة الأرباح…
في المقابل، تمكنت “كوبا”، رغم الحِصار المُستمر منذ ستو عُقُود، ورغم قِلّة المَوارد، من دعم شركات القطاع العام (بالتعاون مع الصين) التي تمكنت بدورها من تطوير بعض الأدوية، ومنها “إنترفيون 2 ب” الذي تُنتجه وتوزعه شركة “بيو كوبا فارما”، منذ 1986، وفي الصين ظهرت النتائج الإيجابية لهذا الدّواء الكوبي، الذي ساعد، منذ أواخر 2019، في إيقاف بعض أعراض الإصابة ب”كوفيد 19″، كما عاينت إيطاليا هذه النتائج الإيجابية، واشترت “كميات كبيرة” (لم تكشف عنها حكومة ووسائل إعلام إيطاليا) دواء إنترفيرون بكميات كبيرة، واستقبلت عشرات الأطباء الكُوبِيِّين لمساعدة المُستشفيات الإيطالية في علاج المُصابين، وأرسلت كوبا أدوية، وفِرقًا من الأطباء، إلى العديد من البلدان المتضررة للمساعدة في مكافحة تفشي وباء “كوفيد 19″، كما تمكنت كوبا من تحقيق تطورات هامة في علاج مرض الزهايمر (الخَرَف) وعلاج المصابين بفيروس نقص المناعة البشرية (إيدز)، لكن الإمبريالية الأمريكية تقف حجر عثرة في وجه وصول هذه الأدوية إلى الفُقراء في العديد من البُلْدان، بسبب الحصار والحَظْر التجاري، الذي تفرضه على كوبا، وبسبب العقوبات التي تفرضها على أي شركة أمريكية تتجرأ على التعامل مع كوبا…
تقتضي المصلحة العامة إنشاء تحالف عالمي من أجل زيادة الإنفاق الحكومي على البحث العلمي والطّبِّي، وزيادة دعم قطاع الصحة العمومية وإلغاء دعم الشركات الخاصة، وتفعيل الحق في الوقاية والعلاج، والصحة المجانية مع ضمان جودتها، لتحقيق “الأمن الصّحِّي”، وتحجيم نُفُوذ شركات المُتاجرة والمُضارَبَة بصحة البشر، عبر تشديد الرقابة على التجارب التي تُجريها على الأدوية واللقاحات الجديدة، للحد من التّلاعب بنتائج التّجارب، ما يستوجب فك الإرتباط بين المكاتب الحكومية أو الدّولية لمراقبة سلامة الأدوية والشركات المُصنّعة والمُتاجِرَة بها، وإلغاء عقود الشراكة بين المؤسسات العمومية وشركات المختبرات والعقاقير، وإشراف الجامعات ومراكز البحث العمومية على تدريب وتأهيل الأطباء والطّلبة والعاملين بالقطاع الصّحّي، واستبعاد القطاع الخاص من المؤتمرات الطبية ومن التّدخّل في عمل الأطباء والمهنيين في قطاع الصحة، لأن هدف الشركات يقتصر على ترويج مُعِدّاتها وأدْوِيَتِها، كما وجب حَظْر تمويل هذه الشركات لنشاط جمعيات المهنيين والأطباء والباحثين وجمعيات المُصابين بأمراض مُزمنة، واتحادات طلبة الطب والصحة العمومية…
نشرت مجموعة من الشخصيات ومن المنظمات (من بينها منظمات تدافع عن حقوق المُصابين بأمراض مُزْمِنَة)، بنهاية شهر أيار/مايو 2020، بيانًا تدعو من خلاله إلى جعل قطاع الصحة قطاعًا عامًّا، وجعل إنتاج القطاع العام للأدوية، من الأولويات السياسية والإقتصادية والصّحّيّة، وذلك إثر إعلان حكومات الدّول الرأسمالية المتطورة أنها لا تمتلك مخزونًا من الأقنعة وأجهزة الوقاية من الأوبئة، ما عَجَّل بانتشار وباء الفيروس التّاجي، ولاحظت هذه المنظمات نقص الأدوية في المستشفيات العمومية، منذ أصبحت الصحة تجارة خاضعة لقوانين السوق، وبالأخص، إثر خصخصة إنتاج الأدوية وأدوات الوقاية الصحية، ليصبح تعظيم الأرباح هدفًا وحيدًا لتصنيعها وترويجها، في حين تستفيد هذه الشركات الرأسمالية من المساعدات الحكومية، بدون شُرُوط، وفي حين يُحْرَمُ الفُقراء من الرعاية الصحية، ما يجعل المواطنين يُسدّدون ثمن الأدوية والمنتجات الصحية مَرّتَيْن على الأقل: مرة من خلال دعم البحث، بأشكال متعددة ، ومرة أخرى من خلال شراء الأدوية بأسعار باهظة، وما انفكت ترتفع دون أي مبرر.
دَمّرت الأنظمة الحاكمة في أوروبا والولايات المتحدة، وغيرها من الأنظمة الرأسمالية المتقدّمة في دول “المركز”، القطاع العام ومنظومة البحث العلمي (باستثناء البحوث الأمنية والعسكرية) والرّعاية الصّحّية، عبر خصخصتها بشكل بعيد عن الشّفافية، ما يعرض صحة المواطنين، والفقراء منهم بشكل خاص، للخطر، وأصبحت شركات المُختبرات والعقاقير تُطَوِّعُ البحوث والإنتاج الدوائي والقطاع الصّحي بمُجْمَلِهِ (الوقاية واللقاحات والأدوية والعلاج والأجهزة والمعدات الطبية…) لقوانين السوق، ولا تخضع لاحتياجات المجتمع المحلي أو الإنساني، لأن التعاون الدّولي ضروري لمجابهة الجوائح والأوبئة.
لذلك وجب إبعاد قطاعات أساسية مثل الغذاء والمياه والصحة وغيرها عن منطق السوق وإخضاع تسجيل الأدوية والمنتجات الصحية لمنطق المصلحة العامة.
عندما تُمَوِّل الدولة بُحُوثَ الشركات الخاصة، وعندما تشتري الدّولة مسبقًا، منتجًا غير موجود بأسعار مرتفعة، قد لا يقع إنتاجه أصلاً، يرتفع سعر السّهم، وبذلك تقوم الدّولة بتأميم الخسائر وخصخصة الأرباح.
استغلت الشركات الإحتكارية للمختبرات والأدوية أزمة “كوفيد -19 ” لتحقيق المزيد من الأرباح، ونهب المال العام (بتواطؤ من حكومات الدول الرأسمالية الإمبريالية) ليصبح الوباء وسيلة لزيادة أرباح الشركات الرأسمالية التي تُطالب باحتكار اللقاح لفترة طويلة (بمعدل 15 سنة) بناءً على قواعد “براءات الاختراع”، التي حَدّدتها الشركات متعددة الجنسيات لصناعة الأدوية…
صرّح فيدل كاسترو ( 1926 – 2016 ) ذات مرة: يموت الناس في كوبا بسبب الشيخوخة وليس بسبب الفقر والجوع والمخدّرات والجريمة وغيرها من الأوبئة الإجتماعية…
رغم الحصار المُستمر منذ ستة عُقُود ورغم شُحّ الموارد، أنشأت سلطات الثورة مركز هافانا للهندسة الوراثية والتكنولوجيا الحيوية الذي طَوَّر لقاحًا فعّالا ضد التهاب الكبد من نوع “ب” استفاد منه حوالي 70 مليون شخص حول العالم، وطورت كوبا نظام الرعاية الصحية، من خلال نشر المعلومات الصحية، ضمن برامج التعليم العام ووسائل الإعلام، ومن خلال الإستثمار في العمل الإجتماعي والتربية البدنية، وتوظّف الدولة أكثر من سبعين ألف من العاملين في مجال الصحة الرياضية مع المدارس ومراكز كبار السن لتوفير فرص لقضاء وقت الفراغ في النشاط البدني، وللوقاية من الأمراض المزمنة…

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى