أخبارإسلامثقافة

فضل قيام الليل

د. حلمي الفقي

فى جنح الظلام ، وبعد أن يرخي الليل سدوله ، وحين يأنس كل حبيب بحبيبه ، يهب المؤمن من نومه ، مجافيا جنبه عن مضجعه ، ويصف قدميه بين يدي ربه رغبا ورهبا بل حبا وشوقا ، فالمؤمن يعبد ربه بحب كامل وخضوع شامل ، والمؤمن يطير الى ربه على أجنحة الشوق ، والمنافق تسوقه سياط الرهبة الى الله فلا يزال يتباطأ حتي ينتهي الى مصيره المحتوم ، ومصرعه المشؤوم ، والمؤمن إذا ذهب الى النوم أول الليل لا تزال نفسه تحدثه بقيام الليل والوقوف بين يدي خالقه عز وجل ، فيوقظه الحب والشوق الي ربه فيهب من فراشه مبادرا الى طهوره واقفا بين يدي ربه ، يشكر نعمه ويذكر الاءه ، ويعلن فى جنبات الوجود حبه لمولاه فاطر الملكوت ، مستعينا به عز وجل على عقبات الطريق ومشاقه وصعوباته ، كما أرشد ربنا عز وجل نبيه محمد صلى الله عليه وسلم فى صدر سورة المزمل : ﴿يَٰٓأَيُّهَا ٱلۡمُزَّمِّلُ ، قُمِ ٱلَّيۡلَ إِلَّا قَلِيلٗا ، نِّصۡفَهُۥٓ أَوِ ٱنقُصۡ مِنۡهُ قَلِيلًا ، أَوۡ زِدۡ عَلَيۡهِ وَرَتِّلِ ٱلۡقُرۡءَانَ تَرۡتِيلًا ، إِنَّا سَنُلۡقِي عَلَيۡكَ قَوۡلٗا ثَقِيلًا ، إِنَّ نَاشِئَةَ ٱلَّيۡلِ هِيَ أَشَدُّ وَطۡـٔٗا وَأَقۡوَمُ قِيلًا ﴾ [المزمل: 1-6]

فقيام الليل هو الإعداد الأقوى للداعية لبناء شخصية صلبة تتمكن من معاندة الدنيا ومواجهة الباطل بصروحه الزائلة وقواه الهائلة والواهية فى ذات الوقت ففى فجر الدعوة الإسلامية وفى خطواتها الأولى ،وحين أرسل رب العالمين تبارك وتعالى رسوله محمدا ﷺ بالحق بشيرا ونذيرا وأمره أن يبلغ دعوة ربه للعالمين وأن يحدث فى الكون هذا الانقلاب الهائل الكبير وأن يسوق الجماهير إلى منهاج رب العالمين ، فكان لا بد من زاد كبير للمهمة الكبيرة وكان هذا الزاد هو قيام الليل ، فسارع النبي ﷺ وآل بيته وصحبه لقيام ليلهم بين يدي ربهم يطلبون منه العون والمدد على تزكية نفوسهم وتنقية قلوبهم وإصلاح الكون من حولهم فكانت متعتهم في قيام ليلهم ألذ متاع عرفه الإنسان فهجروا فراشهم و تجافت جنوبهم عن المضاجع { إنما يؤمن بآياتنا الذين إذا ذكروا بها خروا سجدا وسبحوا بحمد ربهم ، وهم لا يستكبرون . تتجافى جنوبهم عن المضاجع ، يدعون ربهم خوفا وطمعا ، ومما رزقناهم ينفقون . فلا تعلم نفس ما أخفي لهم من قرة أعين ، جزاء بما كانوا يعملون.}

يقول صاحب الظلال : وهذا مشهد تستروح له الأرواح و تخفق له القلوب . إنه مشهد المؤمنين . مشهدهم خاشعين مخبتين عابدين ، داعين إلى ربهم وقلوبهم راجفة من خشية الله ، طامعة راجية في فضل الله . وقد ذخر لهم ربهم من الجزاء ما لا يبلغ إلى تصوره خيال ، وهي صورة وضيئة للأرواح المؤمنة ، اللطيفة ، الشفيفة الحساسة المرتجفة من خشية الله وتقواه ، المتجهة إلى ربها بالطاعة المتطلعة إليه بالرجاء ، في غير ما استعلاء ولا استكبار . هذه الأرواح هي التي تؤمن بآيات الله ، وتتلقاها بالحس المتوفر والقلب المستيقظ والضمير المستنير .

هؤلاء إذا ذكروا بآيات ربهم ( خروا سجدا) تأثرا بما ذكروا به ، وتعظيما لله الذي ذكروا بآياته ، وشعورا بجلاله الذي يقابل بالسجود أول ما يقابل ، تعبيرا عن الإحساس الذي لا يعبر عنه إلا تمريغ الجباه بالتراب ( وسبحوا بحمد ربهم ) . مع حركة الجسد بالسجود . ( وهم لا يستكبرون) . . فهي استجابة الطائع الخاشع المنيب الشاعر بجلال الله الكبير المتعال .

ثم مشهدهم المصور لهيئتهم الجسدية و مشاعرهم القلبية في لمحة واحدة . في التعبير العجيب الذي يكاد يجسم حركة الأجسام والقلوب : { تتجافى جنوبهم عن المضاجع يدعون ربهم خوفا وطمعا }

إنهم يقومون لصلاة الليل . صلاة العشاء الآخرة . الوتر . ويتهجدون بالصلاة ، ودعاء الله . ولكن التعبير القرآني يعبر عن هذا القيام بطريقة أخرى { تتجافى جنوبهم عن المضاجع } فيرسم صورة المضاجع في الليل تدعو الجنوب إلى الرقاد والراحة والتذاذ المنام . ولكن هذه الجنوب لا تستجيب . وإن كانت تبذل جهدا في مقاومة دعوة المضاجع المشتهاة . لأن لها شغلا عن المضاجع اللينة والرقاد اللذيذ . شغلا بربها . شغلا بالوقوف في حضرته . والتوجه إليه في خشية وفي طمع يتنازعها الخوف والرجاء . الخوف من عذاب الله والرجاء في رحمته . والخوف من غضبه والطمع في رضاه . والخوف من معصيته والطمع في توفيقه

وقال الفضيل بن عياض: إذا غربت الشمس فرحت بدخول الظلام لخلوتي فيه بربي، فإذا طلع الفجر حزنت لدخول الناس علي . وقال أبو سليمان: أهل الليل في ليلهم ألذ من أهل اللهو في لهوهم، ولولا الليل ما أحببت البقاء في الدنيا. وقال أيضاً: لو عوض الله عز وجل أهل الليل من ثواب أعمالهم ما يجدونه في قلوبهم من اللذة لكان ذلك أكبر من أعمالهم . وقال بعض العلماء: ليس في الدنيا وقت يشبه نعيم أهل الجنة إلا ما يجده أهل التملّق في قلوبهم بالليل من حلاوة المناجاة . وقال بعضهم: قيام الليل والتملّق للحبيب والمناجاة للقريب في الدنيا ليس من الدنيا هو من الجنة أظهر لأهل الله تعالى في الدنيا، لا يعرفه إلا هم، ولا يجده سواهم روحاً لقلوبهم . وقال عتبة الغلام: كابدت الليل عشرين سنة، ثم تنعمت به عشرين سنة .

وعن عمرو بن عنبسة قال: سمعت رسول اللَّه ﷺ يقول: إن أقرب ما يكون الرب عز وجل من العبد جوف الليل الأخير فإن استطعت أن تكون ممّن يذكر اللَّه سبحانه وتعالى في تلك الساعة فكن

وعن أبي ذر الغفاري قال:{ قلت يا رسول اللَّه أي الليل الصلاة فيه أفضل؟ قال: نصف الليل الغابر يعني الباقي } . وسأل رسول اللَّه ﷺ جبريل عليه السلام أي الليل أسمع؟ فقال : { إن العرش يهتز من السحر } . وقد روي في الخبر إن في الليل ساعة لا يوافقها عبد مسلم يسأل اللَّه خيراً إلا أعطاه . وروي في خبر آخر : يصلّي ، أو يدعو إلا استجاب له ، وهي في كل ليلة . وروي عن النبي صلى الله عليه وسلم إذا مضى نصف الليل، وفي لفظ آخر : { إذا بقي ثلث الليل الأخير نزل الجبار سبحانه وتعالى إلى ‌السماء ‌الدنيا فقال لا يسأل عن عبادي غيري هل من تائب فأتوب عليه، هل من مستغفر فأغفر له، هل من داع فأستجيب له، هل من سائل فأعطيه، كذلك حتى يطلع الفجر } .

فقيام الليل شرف المؤمن ، والصلة القوية بين العبد وربه ، وجوف الليل الأخر ، أو الثلث الاخير من الليل هو وقت إجابة الدعاء وهو وقت بث الشكوى والهموم الى الحي القيوم ، وهو وقت النجوى ، والمناجاة بين الخالق والمخلوق وهو وقت الخلوة بالمحبوب .

ووقت قيام الليل يبدأ من بعد صلاة العشاء مباشرة ويمتد إلى آذان الفجر وأفضل وقته ثلث الليل الأخير ، وأفضله ما كان بعد القيام من النوم حتى تكون النفس صافية من الهموم ، ويكون العقل خاليا من مشاق الحياة ، ففي هذا الوقت تعى النفس ما تسمع الأذن ويتدبر القلب ما يتلوه اللسان مصداقا لقوله عز وجل : { إِنَّ ناشِئَةَ اللَّيْلِ هِيَ أَشَدُّ وَطْئاً وَأَقْوَمُ قِيلاً } (المزمل : 6)

يقول الدكتور وهبة الزحيلى ، فى التفسير الوسيط «إن ناشئة الليل، أي قيام الليل، وهو الذي ينشأ بعد نوم، أشد موافقة ومصادفة للخشوع والإخلاص وتوافق القلب واللسان، فذلك يتجلى في هدوء الليل أكثر من أي وقت آخر، وهو أجمع للخاطر في أداء القراءة وتفهّمها، وأشد ثبوتا ورسوخا، وأقوم قولا وأثبت قراءة، لأنه بخلو البال من أشغال النهار يوافق قلب المرء لسانه، وفكره عبارته، فهذه مواطأة صحيحة» .

وقيام الليل هو السبيل إلى إعداد المؤمن المجاهد سليم العقيدة ، صحيح العبادة ، والقيام هو عدة المجاهدين فى سبيل الله عز وجل إلى تهيئة نفوسهم و وجدانهم لمواجهة عدوهم واقتلاعهم من أرضهم وتحرير مقدساتها والذود عن حياضهم والدفاع عن بيضة الإسلام .فكان صلاح الدين الأيوبي يتفقد جيش المسلمين قبل موقعة حطين الشهيرة فإذا رأى خيمة فيها جند يغطون فى نومهم قال : من هنا تأتي الهزيمة وإذا رأى خيمة فيها الجند يقومون ليلهم يصلون بين يدي ربهم قال من هنا يأتي النصر .

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى