الزيزان

منير المجيد

موضوعي اليوم يدور عن الزيزان (Cicada)، وبالتحديد نوع «عملاق» منها أسمه BROOD X حيث يتكاثر في شرق الولايات المتحدة الأمريكية.
لكن قبل أن أسترسل أودّ توضيح أمر هام: يعتقد بعض القرّاء القلّة الذين يتصفّحون مواضيعي هذه، أنني مطّلع وواسع المعرفة. هذا غير صحيح. الذي يحدث أنني أتعثّر بنبأ ما يُثير فضولي، فانصرف إلى الغوغلة لأقرأ المزيد عنه. المعلومات بالعربية محدودة وخاصة في الويكيپيديا، لا بل أنها مُخترقة من بعض ذوي المآرب الخاصة، لذلك أعتمد على الإنكليزية والدانماركية. وحينما أرى أن الموضوع قد يكون ذا فائدة أسعى إلى نشره. وللشهادة أقول أنّ النشر يُرضي أناي بالدرجة الأولى.

بعد الفضفضة، أعود إلى موضوع اليوم.
في موسم الصيف تملأ الزيزان الأماكن الدافئة والحارة حول العالم بضجيج شيطاني. هكذا هي الحشرات والطيور والحيوانات، تُصدر الأصوات في موسم التزاوج. صحيح، فشدو الطيور، مثلاً، له هدف وحيد هو استمرار نسلها، ولا يهدف إلى طرب العشّاق.
المُثير في نوع «بروود اكس» الذي يبلغ طوله بين ثلاث إلى خمس سنتيمترات، بأنواعه الثلاث Magicicada septendecim, Magicicada cassinii و Magicicada septendecula، أنّه يبقى مطموراً تحت الأرض لمدة سبعة عشر عاماً، يتغذّى على جذور النباتات والأشجار.
قبل نحو سنة حفرت مليارات منها ثقوباً، قد تكون في فجوات البلاط والمساحات المعشوشبة في الحدائق أو من غابة ما وتركت خلفها عدداً لا يُحصى من الثقوب، لترمي عنها قشرها الحوري وتتحوّل إلى حشرات ناضجة، مُشكّلة مقبرة من الهياكل. المشهد يُشبه، بالنتيجة، كواليس فيلم رعب كوري.
هذه الظاهرة الطبيعية المُذهلة أثارت وتُثير حيرة الإنتومولوجيين (عُلماء الحشرات)، الذين لم يتمكنّوا من إيجاد تفسير واضح لها. فكيف تعيش حشرة لمدة سبعة عشر عاماً، وحياة الحشرات قصيرة كما هو معروف، وباقي الحشرات لا يتعدّى أطولها عمراً السنوات الثلاث؟

إذاً، حالما تخرج من مخابئها، وكأنّها مومياء تعود إلى الحياة، سرعان ما تبدأ في صياحها الذي يودي بعقل الناس، وتُشعرهم وكأنهم في منتصف حلبة سباق سيارات الفورميولا وان. الهواء يتحوّل إلى سائل ثقيل من ضجيج الذكور.
تستمر فترة التزاوج من أربعة إلى ستة أسابيع، من ساعات الصباح الأولى وحتى عتمة غياب الشمس. وهي لا تتغذى إلّا قليلاً على نسغ لحى الأشجار. الوقت ضيّق وتدبير الطبيعة مرسوم ودقيق. في الوقت هذا، يصعب على الناس البقاء خارج بيوتهم لفترة طويلة، والذي ينسى شبّاكاً مفتوحاً في بيته، سيجد صعوبة في التخلّص من حشرات لا يهمها سوى التزاوج. في الواقع، هي أحياناً تكون، دون سابق تخطيط، المُسبّب في حوادث سير مروعة إن ترك الناس نوافذ سياراتهم مفتوحة.

خلال هذه الأسابيع القليلة تكون الإناث قد وضعت بيوضها على الأغصان، وهذه بدورها تفقس لتسقط على الأرض وتُسارع إلى طمر نفسها تحت الأرض، ومن لم تلتهمه باقي بهائم الأرض، يموت موتاً إعتياداً، لفسح المجال للجيل القادم، بعد سبعة عشر عاماً.
على فكرة، هناك نوع آخر تكون دورة حياته ثلاثة عشر عاماً، وآخر لمدّة تسع سنوات، بينما العادي منها تبلغ دورته سنة واحدة. ما قصّة الأرقام المُفردة، ١٧، ١٣، ٩ و ١؟ ولماذا تُشير كتب الأديان إلى أن الله خلق الأرض في ٧ أيام وليس في أسبوع؟
يجدر بالذكر أنّ البروود اكس حشرة مُسالمة لا يمكن مُقارنتها بالجراد مثلاً. الأخير يلتهم الأخضر واليابس ويتسبب بالمجاعات، بينما حشرتنا زاهدة في طعامها وحياتها فوق الأرضية.

الزيزان بشكل عام، هي غذاء بروتيني هام للطيور، وسبق أن تمتّع بتناولها الإغريقيون. اليوم يقلونها بالزيت في مطبخ «شاندونغ» الصيني، سواء كانت يرقة أو حشرة بالغة، أو تُستعمل في الطبّ الشعبي التقليدي. يأكلونها أيضاً في أمريكا الشمالية وأفريقيا الوسطى وبضع مناطق اخرى حول العالم.

وقد ظهرت الحشرة في الأدب منذ إلياذة هوميروس، وكزخرفة على الثياب والحلي وآنية الطبخ في عصر سلالة شانغ الصينية ما قبل الميلاد، وموضوعاً مُتكرّراً في قصائد الهايكو اليابانية.
الزيزان هي رمز تحدي الموت والبقاء، كما تقول كلمات الأغنية الإحتجاجية الإرجنتينية المعروفة «مثل الزيز» من أداء مرسيدس سوسا.

ولأنني أهيم بختام قصيدة لها مساس بنصي، لم أجد أبلغ وأفضل من قصيدة شاعر سوريا القديمة «ملياغير من غادارا» (غادارا هو الإسم القديم لبلدة أم قيس الأردنية) والذي تلقى علومه في مدينة صور وعاش على جزيرة «كوس» ويُعدّ من روّاد القصيدة اليونانية الهلينية في القرن الأول قبل الميلاد. وقد كتب قصيدة عن الزيزان يدعوها بـ «أيتها الحشرة الصاخبة، تلك التي تحمل قطرات الندى الحلوة» ونصّها كما يلي:
نشوانٌ، غبارٌ في صحراء أغنية أرض الغابات
تجثم على غُصين بأقدامك المُسنّنة
بجسدك الداكن الشبيه بحلقة القيثارة
تعال، عزيزي الزيز، داعب كل البيّارات
الحور والعموم سلالة جديدة مُنهكة
وهكذا أنا، في نوم الظهيرة، قد أسرق من الحب،
متكأً تحت الدُلب المستور بالظلمة.

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى