في الواجهة

عندما يتخلى الغني عن الفقير

يونس شقفي

مالياً، وإقتصادياً، يبلغ الناتج القومي العالمي الفعلي ما يقارب 90 تريليون دولار. ولكن حجم البورصة العالمية يبلغ 300 تريليون دولار.هذا الفرق الشاسع بين الإقتصاد الفعليّ، والإقتصاد الوهمي الإفتراضي، جعل العالم بؤرة أزمات مالية وإقتصادية كانت تظهر كل عشرين إلى ثلاثين عاماً، ولكن بفضل التطور التكنولوجي وسرعة الإتصالات تقلّصت هذه المدة الزمنية لتتكرر كل 10 أعوام إن لم يكن أقل.

فهذا النظام الذي تحكمه ضوابط الجشع والطمع والإحتقار، أوجد هوّة كبيرة بين الفقراء والأغنياء، لدرجة إختفاء الطبقات الوسطى التي تعتبر بيضة القبّان وصمام الأمان في النظام الإجتماعي، فازداد الفقراء فقراً وازداد الأغنياء غنى، وانهارت دول، وتفشّت الأمراض، واختفت القيم بفعل هذا النظام الذي كرّس اقوياءه كل ما يملكون من جبروت مالي، إعلامي، إقتصادي وعسكري لإحكام قبضتهم على العالم كما تقدم في الشق السياسي الذي سبق الحديث عنه، وأصبحت الخصخصة إحدى أهم أساليب النهب المنظم لثروات الشعوب، حيث سيطرت شركات عابرة للقارات والأوطان على مقدرات وثروات الشعوب، وفرضت نمط الإستهلاك في أكبر عملية ربط إقتصادي عرفتها البشرية، أدّت إلى انعدام تكافؤ الفرص الوظيفية والمعيشية والخدماتية بكل أشكالها الصحية والتعليمية والإقتصادية.

ولا يخفى الدور الذي مارسته وما زالت مؤسسات العولمة الإقتصادية كصندوق النقد الدولي والبنك الدولي ومنظمة التجارة العالمية، التي مارست سلطتها المكرّسة لقهر الدول الفقيرة وإحكام السيطرة على أنظمتها السياسية والإقتصادية خدمة للدول الغنية وتكريس أستغلالها ضد أرادة الشعوب، اليونان والأرجنتين خير مثال.

أما من الناحية الدينية، كان الدين ولا يزال شئنا ام أبينا يلعب دوراً مهماً ومحورياً في حياة الشعوب سلباً اوإيجاباً، والشواهد التاريخية أو المعاشة أكثر من ان تَعد وتُحصي الحروب الدينية في العصور القديمة، او العصر الحديث والذي سنركّز عليه لانه شكّل ولا يزال الحدث في أكثر من منطقة من العالم.

منذ أواسط القرن العشرين، كان الدين العنصر الأساسي في الصراعات السياسية، منها الحرب في ايرلندا بين الكاثوليك والبروتستانت، الحرب في سيريلانكا، الحرب في قبرص، إستقلال باكستان ذات الأكثرية المسلمة عن الهند، الحرب في أفغانستان، والتي تحالفت فيها الولايات المتحدة الأميركية مع القاعدة لقلب النظام الموالي للإتحاد السوفياتي السابق، قبل أن يحصل الطلاق بين الجانبين وينقلبان على تحالفهم ويدخلان في مواجهة على أسس دينية، وهذا ما أكدته تصريحات كل من الرئيس الأميركي الأسبق جورج دبليو بوش وأسامة بن لادن زعيم تنظيم القاعدة عندما قال الأول بأهل “الخير وأهل الشر” وقال الثاني “بأهل الكفر وأهل ألإيمان”. ولا يمكن أن ننسى فلسطين حيث استعملت الصهيونية البعد الديني (أرض الميعاد) لإحتلالها فلسطين والتي تريد تكريسها دولة يهودية، حروب الإبادة في رواندا والصحوة الدينية التي أدت الى قيام الثورة الإسلامية في إيران عام 1979.

أما في القرن الحالي، فالحرب في بورما وطرد المسلمين بعد تنفيذ عمليات تطهير عرقي، وصولاً لظهور داعش (بغض النظر عن من شكّلها وموّلها وقوّى شوكتها واستثمر فيها) فقد عمدت الى تكفير وهدر دم كل من يعاديها على أسس دينية أو مذهبية. وما يحصل في الهند حالياً من التضييق على أسس دينية من قبل الهندوس التي تلقى رعاية الحزب الحاكم على الأقلية المسلمة.

أما في الغرب أو الدول الديمقراطية فقد أعلن الرئيس الأميركي وعلى أساس ديني حذر دخول مواطني بعض الدول الإسلامية الى الولايات المتحدة، ولم تشذ اوروبا عن القاعدة حيث أصبحت ظاهرة الإسلاموفوبيا شعاراً لقوى اليمين العنصري في دول الإتحاد الأوروبي.

إذن، كيف ولماذا انحرفت الأديان عن الرسالة الإنسانية؟!

بالطبع، لم يأتِ هذا الإنحراف من فراغ، بل نتيجة استثمار طويل الأجل من قبل القوى التي تملك المال والسلطة والإستخبارات والإعلام، التي لم تألُ جهداً من أجل استغلال الدين، وبتواطؤ من مؤسسات دينية لنشر الفوضى والنزاعات وتأليب اتباع الأديان والمذاهب على بعضها البعض، للحفاظ واستمرار سيطرتها على مقدرات وثروات الشعوب والدول التي دمرتها الخلافات الدينية، وخير دليل على ذلك العراق بعد الإحتلال الأميركي الذي زرع وغذّى الفتنة المذهبية التى ما زالت نيرانها تحت الرماد، هذا بالإضافة الى تهجير الأقليات المسيحية.

وهنا، لم يكن خافياً دور الإعلام التضليلي في تشويه الحقائق، لا بل خلق الأكاذيب بعيداً عن أخلاق المهنة المفترضة، حيث ظهر جلياً التواطؤ الواضح والجلي بين سلطتي المال والإعلام، والأخطر من ذلك ان الأدوات التي خلقها الغرب، وخصوصاً الولايات المتحدة الأميركية بالتعاون مع بعض الأنظمة الذين ذهبوا بعيداً في خدمة المشروع الأميركي، رافعين راية الدين للتغطية على مشاريع لا بعد ديني لها على الإطلاق.

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى