تعاليقرأي

رومانسية ضائع

رشيد مصباح(فوزي)

**

حين يفقد الانسان الأمل في هذه الحياة فإنّه لا يجد بدّا من الرّجوع إلى الذّكريات بكل ما فيها، من أفراح وأتراح يستذكرها بالحنين إلى الأيّام الخوالي، وبالبكاء على العمر الفاني وعلى كل من فارقهم من الأحباب والأصدقاء.

الذين كانوا قد ملأوا حياتنا ثمّ غابوا عنا الآن فجأة و تركونا لجنون الهواجس ومشاعر الحزن. فقد كانت لي أمّ وكان لي أب في أحد الأيّام فلم أكن أشعر يوما رفقتهما بمثل هذه البرودة وهذه الكآبة مثلما هو الحال في هذه الأيّام، وكان لديّ أصدقاء كثيرون لم اعرف معهم قط الملل مثلما ما أنا عليه الآن.. لكنّهم فارقوني؛ فمنهم من زاول دراسته في مكان آخر ولم أعد أراه، ومنهم من هاجر إلى الخارج، ومنهم من اختاره الأجل فهو الآن تحت الثّرى. وهذه هي سنّة الله في هذه الحياة: “دوام الحال من المحال” -كما جاء في المثل-. ولكن مكانتهم باقية في القلب مادام هناك ذكريات جميلة نتقاسمها.

جمعت الأقدار بيننا وكانوا لي أكثر من أصدقاء زملاء؛ فلم يكن يفرّق بيننا سوى عطلة نهاية الأسبوع أو العطل المناسباتية و الموسمية. لن أقدر على نسيان تلك الأوقات التي قضيناها معا؛ في ملعب الثانوية مع عمّو (سي عبدالله)” فرحان” أستاذ مادّة الريّاضة، و في “الرّيفيكتوار” قاعة الأكل نتسابق إلى حجز الأمكنة، وفي صالة مراجعة الدّروس مع المراقب “المرح” (فرحات بوراس)، و في”الدّورتوار” المرقد مع المراقب العام(حمّة عتارسيّة)” على العام هو غضبان”… رحم الله من مات واطال الله في عمر هو حيّ يزرق الآن، وأمدّه بالصحّة والعافية.

لكن هذا لايعني أنّني كنت مواظبا على دروسي؛ فقد اخترتُ تمضية أوقات ما بعد الغروب-الأصيل- -مثلا- في ساحة الثّانوية الطويلة العريضة، أردّد بعض الأغاني لعبدالحليم حافظ وغيره، وحدي. وأحيانا رفقة صديق أو زميل. وفي قراءة الروايات الرومانسية وأحيانا البوليسية-مثلا- في المرقد حين يأوي الآخرون إلى فراشهم وتطفأ الأنوار ولم يتبقّ هناك سوى مصابيح المراحيض فأكمل الرواية أو القصّة في إحدى زواياها بعيدا عن الرّقابة والأنظار، وعن كل ما من شأنه يشوّش أو يشتّت التركيز والانتباه. فقد كنتُ أعشق الأغاني وقراءة الروايات والقصص في تلك الأيّام حتّى النّخاع، فكنتُ أمضي جلّ أوقاتي تائها معذّبا بين رومنسية (جبران خليل) وأغاني (عبد الحليم)، في الوقت الذي كان فيه تلامذة النّظام الدّاخلي يراجعون دروسهم، ويجتهدون. و تسبّب كرهي لشعبة الآداب التي ألحقوني بها في نفوري الشّديد من الدّراسة. وكلّما مرّ يوم زادت كراهيتي ونفوري. وتماديتُ في الغيابات. غير إنّني كنتُ لا اغيب في الامتحانات فلم أرسب وأنقذتُ به نهاية تلك السّنة الأولى ثانوي من موسم: (1978-1979).

ضائعٌ بين أقرانه
الجزء الثاني

(15)

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

شاهد أيضاً
إغلاق
زر الذهاب إلى الأعلى