أخبارأخبار العالمإقتصاددراسات و تحقيقاتفي الواجهة

لماذا تزايدت التهديدات العسكرية للملاحة البحرية الدولية؟

لماذا تزايدت التهديدات العسكرية للملاحة البحرية الدولية؟

الحائط العربي

يُعد مجالُ الملاحة البحرية من أكثر المجالات انكشافاً على التهديدات المتنوعة، نظراً لعدم التزامه بحدود جغرافية أو تبعيّته لجهات أو دول محددة. ولعلّ التهديدات العسكرية الأخيرة التي استهدفت الملاحة الآمنة في بعض المناطق كانت الأكثر حدة خلال العقود الأخيرة، خاصةً وأن ذلك ارتبط بشكلٍ ما بدوافع مشتركة للدول التي تنفذ تلك التهديدات، خاصة من قبل روسيا وإيران والصين، مثل ممارسة الضغوط عبر تهديد التجارة والاقتصاد العالميين، ومواجهة العقوبات عبر الضغط على حرية الملاحة البحرية، بالإضافة إلى محاولة الترويج لطرق بديلة لممرات التجارة البحرية التقليدية، وهو ما يهم كل دول العالم التي يشغلها تدفقات الغذاء والطاقة.

فقد شهدت الفترة الأخيرة عمليات عسكرية استهدفت الملاحة البحرية الدولية، وتزامن تنفيذ تلك العمليات في أوقات متقاربة وبمناطق جغرافية متباعدة لتعكس الاستهداف المتعمد لذلك المجال الحيوي، لا سيما وأن التركيز جاء على بعض المضائق والمناطق البحرية التي تشهد زخماً في عبور التجارة العالمية، وهو ما دلل عليه التالي:

استهداف متعمد

1- مضيق هرمز: تزايدت التحركات الإيرانية التي تستهدف السفن المارة بالمضيق خلال الفترة الماضية، سواء عبر الاحتجاز أو إطلاق النار عليها، مما أدى إلى تعزيز الولايات المتحدة الأمريكية لتواجدها العسكري بتلك المنطقة في 7 أغسطس 2023. ولكن بالرغم من ذلك حذرت بعض الجهات من الملاحة بتلك المنطقة، مثل تحذير وكالة الأمن البحري البريطانية في 12 أغسطس من وجود تهديد متنامٍ في محيط المضيق.

2- البحر الأسود: عقب إعلان روسيا تعليق اتفاقية حبوب البحر الأسود في 17 يوليو 2023، استهدفت موسكو الموانئ الأوكرانية عبر 7 هجمات بطائرات مسيرة وصواريخ في غضون شهر (وفق الرئيس الأوكراني “فولوديمير زيلينسكي”). وفي المقابل، حاولت كييف استهداف سفن أسطول البحر الأسود التي تؤدي مهام السيطرة على الملاحة في الجزء الجنوبي الغربي من البحر، فيما أوقفت القوات البحرية الروسية سفناً متجهة للموانئ الأوكرانية لتفتيشها، علماً بأن وزارة الدفاع الروسية كانت قد أعلنت، في 19 يوليو من العام نفسه، أنه سيتم اعتبار جميع السفن المبحرة في البحر الأسود إلى الموانئ الأوكرانية بأنها تحمل أسلحة وعتاداً عسكرياً لكييف.

3- مضيق تايوان: كثّفت الصين إجراء العديد من المناورات والتدريبات العسكرية في المضيق وبالقرب منه خلال الأشهر الماضية إثر تزايد الخلاف مع تايوان، كان آخرها في 19 أغسطس 2023، حيث ذكرت وزارة الدفاع التايوانية في 20 أغسطس أن 27 مقاتلة تابعة للقوات الجوية الصينية عبرت خط الوسط لمضيق تايوان (انظر شكل رقم 1).


دوافع التهديد

إنّ تهديد الملاحة البحرية عسكرياً خلال الفترة الأخيرة ارتبط بأهداف متباينة للدول التي تقوم بذلك التهديد، إلا أنها في الوقت نفسه تعكس أنماطاً وأبعاداً مشتركة، يمكن إبراز أهمها على النحو التالي:

1- ممارسة ضغوط عبر تهديد الاقتصاد العالمي: إنّ وضع الاقتصاد العالمي المتراجع في الوقت الراهن يزيد من حساسية وحدة التأثير من أي تهديد للتجارة الدولية التي تنقل بحراً، وبالتالي يُرى أن إيران وروسيا والصين تبرز نفوذها المؤثر في الاقتصاد العالمي عبر إمكانية تعطيل الملاحة والتجارة العالميتين، ولا سيما مع إضرار ذلك بإمدادات أساسية سيكون لها تأثير سلبي على الاقتصاد العالمي مثل النفط والغذاء. فعلى سبيل المثال، يمر عبر مضيق هرمز ما بين 20 و30% من الاستهلاك العالمي للنفط، فيما يمر نحو 21% من التجارة العالمية عبر مضيق تايوان (وفق تقرير لمجلة Maritime Executive The صادر في سبتمبر 2022)، بينما أسفرت اتفاقية البحر الأسود عن تصدير أكثر من 32 مليون طن من السلع الغذائية من 3 موانئ أوكرانية على البحر الأسود إلى 45 دولة في عام (انظر شكل رقم 2).


إن التهديدات العسكرية التي تهدد الملاحة البحرية تترك تأثيرات سلبية على تكلفة انتقال السلع، نظراً لارتفاع تكلفة التأمين في المناطق الخطرة، فضلاً عن تزايد فترات الانتظار في حالة وجود توترات، وقد تصل في بعض الحالات لمنع العبور في بعض المناطق، مثل إعلان إدارة السلامة البحرية الصينية منع العبور في مياه بحر الصين الشرقي بالقرب من تايوان، خلال الفترة من 12 وحتى 14 أغسطس 2023، لإجراء مناورات عسكرية، الأمر الذي يعكس إمكانية التحكم في مسار التجارة العالمية. ولعل تجربتي جنوح سفينة “إيفرغيفن” في قناة السويس في شهر مارس 2021، وتأخير تركيا مرور النفط الروسي في مدخل مضيق البوسفور التركي صوب البحر المتوسط في فبراير 2022، مما أدى إلى تكدسها؛ كشف مدى تأثير الملاحة البحرية على التجارة واقتصادات العديد من الدول وقتها.

2- مواجهة العقوبات عبر الضغط على حرية الملاحة البحرية: إن قطاع النقل البحري شأنه شأن أي قطاع آخر به العديد من الثغرات التي تسمح بالعمل من خلاله بشكل غير قانوني، حيث تستخدم بعض الدول (مثل الصين وإيران وروسيا) أساليب تحول دون معرفة تحركات سفنها، وذلك للالتفاف على العقوبات المفروضة عليها، مثل التلاعب في نظام التتبع الآلي “GPS” للسفينة، ونقل المنتجات من سفينة إلى أخرى ليصعب تعقب الوجهة النهائية، وتسجيل الشركات خارج الدولة المصدرة، وكذا تزييف وثائق الشحن والعلم الموضوع على السفينة، إلا أن تلك الأساليب أصبح يتم رصدها بشكل أكبر، مما أدى للتضييق على صادرات بعض الدول، إيران تحديداً، مما أفقدها حرية مجالات الحركة عبر قطاع النقل البحري.

للرد على ذلك الأمر، يُرى أن إيران وروسيا تقومان باستهداف حرية الملاحة البحرية كإجراء انتقامي على استهدافهما عبر العقوبات، وهو ما له تأثير سلبي على قطاع الشحن البحري ككل، وبالتبعية التجارة العالمية، وخاصة فيما يتعلق بسلاسل الإمداد التي شهدت عدة صدمات منذ تفشي جائحة “كوفيد-19″، لذلك قد يكون تحرك الدول الثلاث يستهدف دفع الدول الغربية إلى تخفيف حصارها عليها، لا سيما وأن الضرر يكون مباشراً وسريعاً للدول الفارضة للعقوبات في أي منطقة حول العالم، حيث إن تهديد النقل البحري لبعض المنتجات والمواد الخام أصبح وسيلة ضغط سياسية واقتصادية جديدة لما لها من تبعات سلبية على اقتصادات العديد من الدول المستوردة لها.

3- محاولة الترويج لطرق بديلة لممرات التجارة التقليدية: تعكس عرقلة روسيا وإيران والصين لحركة الملاحة البحرية في مناطق سيطرتهم، رغبة أو بهدف الترويج لممرات بديلة للتجارة عن تلك التي يتم اتخاذها حالياً، وذلك على النحو التالي:

روسيا: تسلط عرقلة الملاحة في البحر الأسود الضوء على طرق أخرى بديلة، أهمها “ممر النقل الدولي شمال-جنوب” الجاري العمل على استكماله (انظر شكل رقم 3)، الذي ينطلق من روسيا إلى جنوب القوقاز ثم إيران وصولاً للهند، وتوجد عدة دول مشتركة في ذلك الممر مثل تركيا وسلطنة عُمان وسوريا وبعض من دول وسط آسيا، ويتجنب ذلك الممر المرور بالبحر السود في مقابل ممرات برية وبحرية تعتمد على بحر قزوين، كما أن الممر يمتد لمنطقة غرب آسيا.


الصين: تسعى بكين لتفعيل مسارات الربط بين الشرق والغرب برياً، وذلك عبر مبادرتها “الحزام والطريق”، حيث سيقلص ذلك من زمن الرحلة والتكلفة مقارنة بالممرات البحرية، مع الأخذ في الاعتبار أن مخططها له أبعاد استراتيجية تصب في صالحها خلال العقود المقبلة، لا سيما وأنه سيزيد من الاتصال والربط مع العديد من الدول، مما يزيد من حجم التجارة معها، وهو ما يوضحه الشكل التالي:

إيران: تتقاطع مصالح إيران مع كل من روسيا والصين فيما يتعلق بممرات التجارة البديلة، خاصة وأنها عنصر هام في تلك الممرات على اعتبار أنها منطقة عبور رئيسية لدول الخليج العربي بحرياً، وباقي دول غرب آسيا برياً عبر العراق وسوريا وصولاً لتركيا وأوروبا برياً وبحرياً، مما يجعلها طرفاً أصيلاً في تدفق التجارة العالمية بين الأقاليم المستهدفة. ويُشار إلى أن هناك العديد من مخططات الربط الإيرانية بالشرق يجري العمل عليها (مثل مشروع ممر سكة حديد الأمم الخمس)، فضلاً عن ممرات مقترحة للربط مع أوروبا، من ضمنها المرور عبر العراق وسوريا عبر ممر بري أو سكك حديدية “ممر طهران-البحر المتوسط” ومنها بحراً إلى الدول الأوروبية الواقعة على المتوسط.
تتزايد أهمية تلك الممرات مع وجود اختناقات في العديد من الممرات الملاحية نتيجة تزايد التهديدات بشكل عام وليس العسكرية فقط، ولعله بالفعل اتجهت بعض الجهات المتخصصة مؤخراً في تصنيف منطقة البحر الأسود قبالة السواحل الأوكرانية بأنها ضمن المناطق الفائقة الخطورة للملاحة بها (انظر شكل 5)، وهي منطقة ضمن 3 مناطق فائقة الخطورة حول العالم، بما يصرف ذهن شركات الشحن الدولية للتفكير في مسارات أخرى لتجنب تلك التهديدات، وبالمثل لا يستبعد أن يؤدي تفاقم الوضع الأمني في الخليج العربي ناحية مضيق هرمز لإدراج المنطقة ضمن تصنيف المناطق الفائقة الخطورة.


مخاطر متشعبة

في الختام، إنّ قيام الدول الواقعة على الممرات الملاحية الحيوية بإظهار تأثيرها على التجارة العالمية، واستخدامها القوة العسكرية لإبراز ذلك التأثير، أصبح يرتبط بالعديد من المخاطر التي تهدد الأمن الإقليمي والعالمي، لا سيما وأن مجال التأثير أصبح يمتد لأبعاد إنسانية وليس اقتصادية فقط، مما يدفع لضرورة تجاوز الخلافات السياسية لمواجهة تهديدات الأمن الإنساني، مع الأخذ في الاعتبار أن بؤر التوتر الحالية أصبحت ترتبط بشكل وثيق بالأمن الغذائي وأمن الطاقة، مما يطرح ضرورة وضع تصور جديد للحفاظ على حرية الملاحة البحرية الآمنة حتى مع تفاقم النزاعات بين الدول.

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى