الثورة الحقيقية «بين المادة والمعنى»
الثورة الحقيقية «بين المادة والمعنى»
إبراهيم أمين مؤمن/مصر
سأله دهشا: «كيف ذاك؟»
أجابه: «كما قلتُ لكَ، لن يُكبل أيّ نظام حاكم فاسد إلا بحلقات تصنّع من
ضمائر حية، ونفوس طيبة.»
- «يبدو أنك جُننت، أين السلاسل؟»
- «اسمع قصتي وستعلم أني عاقل.»
إمضاء/ إبراهيم أمين مؤمن
القصة
لقد استبشر الإله الدعيّ عندما تيسر له الطعام أكثر عما كان عليه من ذي
قبل، وبدأ يستعيد بعضَ عافيته، وظن أن الأمور بدأت تسير في صالحه،
فأحيت (الأمور) الأملَ بداخله.
ولقد كان أمله في محله فعلا، فقد جاءه إبليس، دخل عليه من باب الكهف
ذي القضبان الحديدية من خلال الريح، وفور أن انتصب أمامه أعاد عليه
الدعيّ نفس الطلب حيث قال: «فكّ قيودي أيها الإبليس.. صديقي.»
قال إبليس: «قلتُ لك مرارا وتكرارا بأني لا أستطيع، وأزيد قولي بأنه لا
يزال ثمة من يسجدون ويسبحون لله.»
تجهم الدعيّ، وانتفخت أوداجه واصطكت أسنانه، وقال وهو في حالة
ثوران شديد: «وهل علمت من إله غيري أيها الإبليس اللعين.»
انقلب وجه إبليس على الفور، وأراد الفتك به، فتشكل على هيئة وحش
مخيف ثم أقبل إليه وهمّ بالتهامه، عندها ارتجف جسد الإله، وقال:
«لماذا؟»
قال إبليس: «من تظن نفسك أيها الطيني الحقير؟ أصدقت أكذوبتك؟
يسعدني أن تدعي الألوهية لتضل بني آدم، لكن أن تظن نفسك إلها عليّ
وأنا من كلمتُ الإله الحق، اخشع لي أيها الصلصالي الحقير.»
نكس الدعيّ رأسه تصنعا، وارتجف جسده بشدة رغما عنه، وأعلن له
موالاته له بصوت خاشع متململ.
عندها قال إبليس: «ثمة أخبار جديدة.»
فرفع الدعيّ رأسه وقال: «اِئْتُني بها أترجاك.»
قال إبليس: «تفشت الأحقاد والكراهية والأطماع فيهم، والأرض على وشك
الانفجار.»
قال الإله الدعي: «استشعرتُ بذلك، فقد استرددتُ بعض عافيتي، وتيسر
طعامي عما كان عليه من ذي قبل.»
قال إبليس: «فحسب؟»
قال الإله الدعي: «وهل ثمة شيء آخر.»
قال إبليس: «قيودك.»
دهش الدعيّ، ونظر إلى قيود يديه فوجدها قد رقت، ثم أمال رأسه للأمام
ونظر أسفله فوجد قيود قدميه رقت هي الأخرى.
قال إبليس: «وقيود رقبتك أيضا رقت.»
سكت إبليس لحظة ثم استدرك: «أرى أن وشم جبهتك الذي طمسوه بدأ
يبرز من جديد، ووشم المجرات الكونية أيضا، طمسوه من يديك وبدأ يظهر
هو الآخر.»
نظر الدعيّ إلى يديه فانفرجت أساريره، ثم نظر إلى صدره فوجد أن وشمه
بدأ يظهر فيه عرشه العائم فوق الماء.
قال إبليس: «وستذوب كل قيودك ويعود إليك كل وشمك بعد أن يفسد الناس
جميعا.»
قال الدعي: «وأتباعي؟»
أجابه: «ما زالوا في تلك الكهوف اللعينة، يحترقون شوقا لعبادتك، لأنك
تيسر لهم كل الملذات على من كنت تحكمهم من قبل، ويحدث لهم ما يحدث
لكَ الآن.»
صمت الإله متفكرا فيما حدث له منذ القدم، وتذكر في مخيلته كل الأحداث
بكافة تفاصيلها.
وقد تألم كثيرا عندما تذكر لحظة القبض عليه هو وأتباعه وإلقائه في
الكهف القابع فيه، ثم ما لبثوا أن فرقوا بينه وبين أتباعه إمعانا في مذلته.
فلما طال الصمت قال له إبليس محدسا: «تفكر في الماضي العتيق؟»
هز الدعي رأسه بالإيجاب.
عندها قال إبليس: «انظر إلى قيودك مرة أخرى.»
دهش الدعي وسأله: «انظر مرة أخرى؟ لم؟»
قال إبليس: «لأذكرك لم كنت حرا بالأمس، ولم أنت اليوم مقيد.»
قال الدعي: «أحب أن أسمع رغم مرارة الذكرى.»
قال إبليس: «أنت وأتباعك نظام، نظام حاكم عام، فعلتم ما كان يحلوا لكم
في محكوميكم لأنهم فسدوا، فسد كل شيء فيهم، فلما أصلحوا من أنفسهم
مكنهم الله من رقابكم جميعا.»
قال الدعي: «وكروا علينا على قلب رجل واحد، فقتلوا منا مَن بارزوهم،
وقبضوا على مَن استسلموا، وأمسكوني وكبلوني، ثم نفوني وأتباعي في
تلك الكهوف اللعينة.»
قال إبليس: «لذلك، ما الكهوف التي حبستم فيها، وما الأغلال التي غللتم
بها ما هي إلا من أنفسهم التي صفت، وضمائرهم التي استيقظت، وما
طُمستْ الوشوم على جبهتك ويديك وصدرك إلا بكلمة منهم. »
هز الإله الدعيّ رأسه وقال: «كنت إلها لما فسدوا، وبتُّ حقيرا لما
صلحوا.»
وجاءت الأخبار إلى إبليس -وهو جالس على عرشه- بأن فجر الطينيين قد
بلغ المنتهى، فأسرع على الفور إلى الإله الدعي ورفع سبابته إليه وقال:
«أبشر أيها الدعيّ، قيودك على وشك الانصهار إيذاناً بالحرية، وانظر إلى
وشمك الذي اتضحت معالمه، أنت وأتباعك.»
وتركه إبليس على الفور وذهب إلى كهوف أتباعه ونادى فيهم: «يا أتباع
النظام، الردم الذي حال بينكم وبين سطح الأرض أوشك أن يندك كثيباً
مهيلاً، استعدوا أيها الصلصاليون، لقد كادت الأحقاد تأكل الأكباد،
والكراهية تقطع الأرحام، والشهوة تغتصب الأولاد، وساد القتل بينهم تحت
حجة حفظ النظام الحاكم.»
فاستبشرت وجوههم، واطمأنت نفوسهم، وبدأت شهوة الجنس والسطوة
والتملك والسادية تتأجج في كل ذرة من كيانهم، وشرعوا في التهليل
والتسبيح والتحميد باسم إلههم.
وبدأ إبليس في استرسال كافة أنواع الجرائم التي سادت في المحكومين
حتى قطع عنه صياح هؤلاء الأتباع، فقد ذابت قيودهم وقضبان كهوفهم،
سرّ إبليس بذلك، وقال في نفسه: أهلا بمرحلة جديدة من مراحل طغيان
البشر.
وعرج الإله حاملا سيفه وخلفه أتباعه مهرعين كوديان النمل حاملين
أقواسهم ورماحهم إلى سطح الأرض، وأطّتْ الأرض من وقع أقدامهم
العمياء، وتساقط دمع العيون فرحة الخلاص المفعم بغريزة الشر والانتقام
من خلَف أجدادهم الذين حبسوهم، وامتزجتْ أصواتهم بأصوات كل كائن
شرير، وما هي إلا أصوات العواء والفحيح والزئير والنعيق.
فجردوا المحكومين من أموالهم وشرفهم، واسترقوهم وجعلوهم تحت
سلطان القهر والفقر والتشرّد.
أما الدعيّ فقد كان يصرخ في أتباعه بتسخير كل المحكومين لعبادته
والتسبيح بحمده كرها أو طوعا، زاعما بأنه حسنة الأيام، والمخلص لهم
من كل الآلام، ويدعوهم بالصبر على المكاره لأنه يبتليهم.
فاستجابوا له ما بين طائع وكاره، خائف وطامع، وتبقى منهم فئة،
أعرضوا عنه، فحبسهم في أغلالهم ولاسيما بعد أن أنكروا ألوهيته
وأخبروه بأن الإله الحق في السماء.
في جمع هائل خرج عليهم الدعيّ وصرخ فيهم: «أيها الأتباع، أيها
المحكومين، هل علمتم من إله غيري؟»
فأجابوه في نفس واحد: «لا وعزتك.»
قال: «إذن عليكم بالإله الدعي الذي في السماء، اقتلوه، اقتلوه.»
فحملوا سهامهم ورماحهم وأطلقوها صوب السماء فارتدت إليهم.
هنا صاح بهم غاضبا وقال: «إذن ابنو لي صرحا كي أصل إليه واقتله
بنفسي.»
قال واحد منهم: «سيدي الإله، له أتباع سيبارزونك، يدعون أنهم ملائكته،
ولذلك يجب أن نصاحبك في معراجك.»
فغضب منهم وقال بعد أن أخذته العزة بالإثم: «سأقتلهم، فأنا قادر على كل
شيء.»
مرتْ السنون، والصرح يزداد علوه شيئا فشيئا، في تلك المرحلة الزمنية
كَلّ الآدميون من الذل والقهرّ حتى بلغ السيل الزبى فقرروا الخلاص من
هذا الدعي بعد أن فقهوا الأمر، حتى إن أكثرهم حكمة وتعقلا قال لهم بأنه لا
حل لهم للخروج من الذل والعبودية إلا الاقتداء بأجدادهم، وظل يذكرهم
كيف تمكن أجدادهم من سلسلة هذا الإله الدعي هو وبطانته في كهوف
تحت الأرض.
رجعوا إلى أنفسهم، وأيقنوا أنه لا خلاص لهم إلا بالاقتداء بفعل أجدادهم
كما قال لهم، فهبوا هبة الرياح العاتية.
فصفت النفوس، واستيقظت الضمائر، وقرروا أنه لا محيص عن
الاعتصام.
تشابكتْ الأيادى والتحمتْ القلوب وتوحدتْ الأبصار وتحاذتْ الأقدام.
وانطلقوا في ثورة، ثورة حقيقية، وفور أن تراءى الجمعان ذاب سيف الإله
الدعي وانصهر، وسقطت سيوف أتباعه من رجفة أصابت أياديهم، فكرّوا
عليهم وسلسلوهم بسلاسل نسجت حلقاتها من وحي ضمائرهم ونفوسهم،
وأعادوهم مرة أخرى إلى الكهوف.
قال أحد كبراء هؤلاء بأن يقتلوهم هم وإلههم الدعي، فرد عليهم أحكم
الحكماء منهم بقوله: «دعوهم آية للبشرية حتى لا تتحول قصتهم إلى
تاريخ أو أسطورة، وحتى تعلم الشعوب أن الحاكم إنما يطغى من خلال
صنع أيديهم، ويصل أقصى طغيانه عندما يدعوهم للخشوع له على كل
الأحوال.»