مجتمع

“التويزة” عادة حميدة تلاشت واختفت من المجتمع

 
 
 
يذكّر أن من الأجداد في الأغواط أن الفلاحين كانوا يحققون شبه اكتفاء ذاتي، ولم يكن إنتاجهم موجها في الأساس إلى التسويق، وإنما للاستهلاك، حيث كان صاحب البستان يوزع بعض منتوجاته على معارفه وأقاربه وجيرانه دون أن ينسى الفقراء والمساكين والمحرومين، إقتداء بقوله تعالى ( وَالَّذِينَ فِي أَمْوَالِهِمْ حَقٌّ مَعْلُومٌ * لِلسَّائِلِ وَالْمَحْرُومِ ) وأفضل ما يتهادون به البواكير التي يسمونها “الفال” في جو من التواد والتكافل الاجتماعي المستمد من القيم الإسلامية الراسخة في هذه الديار.
كما اشتهر المنطقة بـ “التويزة” وهي حملات تعاونية تطوعية يشترك فيها مجموعة من السكان لإنجاز مشروع ما صغير أو كبير، تتمثل في البناء وحفر الآبار والغراسة وبناء السدود التي تروي الانسان والحيوان أو إعادة إقامته وبنائه كلما داهمته السيول العارمة وأزالت حاجزه، وتتكرر العملية ربما عدة مرات في السنة حسب السيول وشدتها، ويحاولون ألا يستغرق أكثر من يوم لئلا تنقطع المياه عن المدينة، ونفس الشيء لإصلاح السواقي وتنظيفها. وكذلك اشتراك السكان في إنجاز المباني سواء كانت عامة كالمساجد أو المدرسة الحرة التابعة للجامع التي بنيت بالتبرعات والتويزة، أو حتى خاصة كمساكن المواطنين .
وكذلك في الأشغال الفلاحية الموسمية لضخامتها واستعجالها لجني التمور وبعض الثمار الوفيرة، وتقليب الأرض وبذرها وجني المحاصيل الزراعية في أجواء من الحماس والإنشاد.
وللنسوة أيضا في أعمال النسيج وفي المناسبات حملات تويزة.. وما من مناسبة أو احتفال أو عرس إلا ويكون حاضرا فيها الكسكس الأغواطي المعروف بتركيبته ومذاقه، على خلاف ما هو معروف عن هذه الأكلة في المدن الأخرى.. وهناك أكلات أخرى كثيرا ما تحضر في المناسبات الاحتفالية، ضلّت منتشرة في هذه المدينة والمناطق السهبية المجاورة ولازالت متداولة رغم التأثير البائن للأكلات ذات المنشأ الغربي أو حتى المشرقي في السنوات الأخيرة.. وإذا ما عرجنا في عجالة على اللباس التقليدي الأصيل فإننا نجده غير مختلف كثيرا عما هو سائد في المدن العريقة، ولاسيما في المنطقة السهبية والصحراوية، فالرجل يفضل في مثل هذا الفصل البرنوس أو القشابية “الجلابة” والقندورة والسروال العربي والبدعيّة “الصدرية” والقميص والعمامة التي تختلف أحجامها والتي تقلص استعمالها في الوقت الحالي.. أما ما يمكن ذكره بخصوص لباس المرأة فهناك ما يسمى “بالقنبوز” الذي اختفى نهائيا ليحل محله الحجاب والجلباب..
فالقنبوز لباس يستر كامل جسم المرأة ولا يبرز منه إلا عينا واحدة للرؤية وكان منه من الأزرق والأبيض لونان مفضلان لقماشه، وله نظائر قديمة بمناطق أخرى تختلف في التسمية فقط.. وتكاد الألبسة التقليدية تنقرض الآن لحساب ألبسة عصرية مستحدثة ومستوردة، مما يقتضي إنشاء متحف محلي للمصنوعات والألبسة التقليدية والحلي من شأنه خدمة التاريخ ورصيد التطورات والتغيرات الاجتماعية وتكوين رصيدا حضاريا يمكن اتخاذه كمرجع يستفاد منه في الابحاث والدراسات.. ومما عرف به سكان الأغواط وعلى غرار المدن الإسلامية العريقة احتفاؤهم بالعديد من المناسبات ذات الطابع الديني والتاريخي بطريقة متميزة من حيث الطقوس والمظاهر الاحتفالية ومن ذلك المولد النبوي الشريف الذي كان يحظى من جميع طبقات المجتمع بالاهتمام، ففضلا عن المدائح الدينية وتلاوة الذكر الحكيم من قبل أطفال الكتاتيب التي مازالت قائمة إلى الآن، يحرص كل رب أسره على أن يوسع في الإنفاق على أهل بيته في اللباس والأكل وشراء لوازم الاحتفال كنوع من التعبير عن حب هذا المجتمع لنبي الأمة محمد صلى الله عليه وسلم . وحتى عاشوراء فتتميز بعدة مظاهر وطقوس احتفاليه وفيها يحرص الكبار على الصوم وإخراج الزكوات والصدقات، تأسّيا بخير خلق الله.. وفي مثل شهر الصوم فيعرف استعدادات وتحضيرات كبيرة ومنها طلاء وتنظيف البيوت وتجديد بعض أثاثها وتحضير التوابل وبعض الأكلات مسبقا، كما يعرف توسعا في الإنفاق مهما كانت المداخيل، وتجتمع فيه الأسر على مائدة الإفطار في جو من التكافل والتآلف الاجتماعي، كما يكون الشهر موعدا لتجديد الزيارات والسهرات الرمضانية.. وفي جو إيماني كبير يحرص الجميع على أداء صلاة التراويح بالمساجد التي تضل عامرة طوال أيام وليالي رمضان.. أما بخصوص الأطفال فهناك عدة عادات دأبو عليها، اقترنت عهودا بهذا الشهر الفضيل، سرعان ما تلاشت الآن.. وأما ما يعرف برأس العام والذي يشمل بداية السنة الهجرية والسنة الميلادية وحتى السنة الفلاحية، فتحضّر الأسر في كل مناسبة منها أطعمة خاصة يجتمع عليها أفراد الأسرة.. ومع كل ما ذكر من طرائق الاحتفال والإنفاق والعيش الذي كان يسوده تآلف كبير فيما بين الأهالي، فالحال يومذاك كان بعيدا عما نعهده الآن من غلو وإسراف وتبذير وبذخ مبالغ فيه.. وتلك مشيئة الله وسنته في خلقه، لكن حب المادة جعل “التويزة” تختفي من المجتمع… غانم ص
 

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى