التطبيع و المواطن العربي البسيط
خالد بطراوي
لا يخفى على أحد، أيها الأحبة، ان مصر كانت أول دولة عربية قد أبرمت ما يسمى “إتفاقية سلام” مع كيان الإحتلال الإسرائيلي. ولا يخفى على أحد أيضا أنه وبعد ذلك … فقد تبعت مصر العديد من الدول العربية، بوتائر بطيئة وبحذر شديد أولا، لكن هذه الوتائر قد تسارعت في الأونة الأخير وأضحت أقل حذرا بل وعلانية وبملء الفم – لشديد الأسف- وتوصف بالهرولة.
لكن ذلك لا يعنينا مطلقا، وأقصد نحن … أبناء الشعب العربي برمته.
ولكن كيف أن ذلك لا يعنينا مطلقا ولا حتى من قريب أو بعيد؟
هل تذكرون الفيلم المصري” السفارة في العمارة”؟ فقد لخّص الحالة الشعبية الجماهيرية المصرية برمتها، مؤكدا ان “إتفاقية السلام” المصرية/ الاحتلالية ما هي – بالنسبة للشعب المصري – إلا حبر على ورق، إذ تنحصر في كونها إتفاقية محدودة التأثير بين الحكومات وبعض رموز الطبقة الحاكمة ورأسمالي مصر الشقيقة، فلم نشهد على الإطلاق أي إتساع لرقعة العلاقات بين الشعب المصري ومواطني دولة الإحتلال، أللهم إلا في مجال محصور بالسياحة الى مصر دون أن يكون هناك حتى رحلات سياحية مصرية الى الأراضي المحتلة.
هل تذكرون أيضا تلك الحادثة المؤثرة عندما باعت شركة أردنية مقطورة رمل الى أحد المواطنين الأردنيين وعندما شكّت في مقصده، تبعت سيارة للشركة الأردنية المقطورة وإنتبهت أنها تفرغ حمولتها لصالح خط الغاز الإسرائيلي، فأرسلت هذه الشركة الأردنية “جرافة” وشاحنة قامت بإعادة تحميل الرمل واعادت المبلغ الذي دفعه هذا الشخص “الذنب”؟
كم عدد تلك الحلقات المتلفزة التي يجري فيها مقدم الحلقة جولة ميدانية في الأسواق العربية في هذا البلد أو ذاك ويستفسر من المارة ممن يلتقيهم عن عاصمة فلسطين، فيجب الجميع دون إستثناء وعلى الفور ” القدس” وعندما يطلب مقدم الحلقة أن يقولوا أن القدس هي عاصمة لإسرائيل ويعرض مبالغ من المال قد يكون من تتم معه المقابلة بأمس الحاجة الى جزء منها وليس جميعها، فيرفّض حتى أن ينطق ذلك بل ويصل الأمر الى مشادة كلامية وتلاسن وقد يتطور الموقف الى عراك بالأيدي، يعود مقدم الحلقة لتقبيل رأس من يلتقيه على هذا الموقف العروبي المشرف.
ونظل، نحن الفقراء أقدر الناس على العشق، كما قال الكاتب الفلسطيني أسامه محيسن العيسة ذات يوم. ففقراء الشعوب العربية هم أقدر الناس على عشق فلسطين، والقدس وأكناف بيت المقدس، ولو قامت كل حكومات دولنا العربية قاطبة بتوقيع “إتفاقيات سلام” هي إستسلام مع الكيان الصهيوني الإحتلالي، فإن ذلك على أرض الواقع لا يعني شيئا للشعوب العربية التواقة للتحرر والانعتاق من الإستعمار بكافة أشكاله ومن أطول إحتلال غاصب عرفه تاريخ البشرية الحديث.
إن أكثر تعريف عميق للتطبيع من وجهة نظري، هو ما أورده الشاعر الفلسطيني المرحوم محمود درويش عندما قال ” ان التطبيع – هو القبول برواية الآخر عن التاريخ”، والشعوب العربية لم ولن تقبل بالرواية الإسرائيلية عن تاريخ فلسطين وتاريخ العرب، لذلك ستبقى إتفاقيات التطبيع … حبرا على ورق … ومن قام بتوقيعها يدرك تماما هذه الحقيقة ويدرك الكيان الإحتلال التوسعي الصهيوني العنصري هذه الحقيقة أكثر من غيره، وما محاولاته لإحداث إختراقات هنا وهناك بين قلة من الأفراد من مواطني الدول العربية إلا محاولة بائسة محدودة التأثير.
لكن ذلك كله، لا يعني مطلقا أن تستريح الشعوب العربية وقواها الطليعية ولا تقدم على تنظيم فعاليات مناهضة للتطبيع في كل البلاد العربية، بل على العكس إذ تقتضي العملية النضالية جنبا الى جنب مع النضال الطبقي في كل بلد لتحقيق والدفاع عن مصالح المواطن العربي، الجمع الخلاّق بين الطبقي والوطني، والوطني والقومي، والقومي والأممي.
لم تكن صدفة أن تضمن النشيد الوطني اليمني هذه العبارة “عشت إيماني وحبي أمميا … ومسيري فوق دربي عربيا … وسيبقى نبض قلبي يمنيا … لن ترى الدنيا على أرضي وصيا”.
بذلك المضمون الواسع، يرى المواطن العربي نفسه، مكرسا حياته لقضايا العالم الأممية ولنصرة شعوب العالم قاطبة وينطلق في رؤيته العروبية للتعاطي مع نضالات الشعوب العربية وينخرط في نضاله الوطني التحرري متصديا للوصاية على بلاده.