مجتمع

حوار مع سائق تاكسى اسمه – ممدوح –

شريف حتاتة

الرضا بالمقسوم

حوار مع سائق تاكسي اسمه “ممدوح”

تعودت منذ سنين على التنقل بسيارتي الخاصة، وهي سيارة “سكودا كومبي” ابتعتها منذ عشر سنوات، وخدمتني بإخلاص منقطع النظير طوال هذه الفترة ، دون أن تحتاج إلى أي إصلاحات لها وزن. لكن جاء الوقت الذي بدأت تئن فيه من مشوار المئة وسبعين ألف كيلو متر الذي اجتازته.
أفهمني الميكانيكي الذي لجأت إليه لإصلاحها ، أنها منذ الآن فصاعدا “هتفتح بقها” وفقا للتعبير السائد بين خبـراء إصـلاح السيارات، وأن علىَ أن أختار بين تكبد مصروفات الإصـلاح المتكرر، أو بيعها وشراء سيارة جديدة.
لكن إزاء الأرقام التي سمعتها من أصحاب صالونات بيـع السيارات قررت أن أعطي لنفسـي مـهـلـة حتـى أدرس الموقف، أن أجرب استخدام وسائل التنقل المتاحة في القاهرة مما يعطيني فرصة للمقارنة. فالمقارنة هي إحدى السبل المهمة للتعرف على حقيقة الأشياء.
هكذا دخلت في مرحلة جديدة أعادتني إلى أيام كنت فيهـا شاباً، خصوصاً وأنني قررت ألا أحتقر أي وسيلة للتنقـل أيـاً كانت. فوجدت نفسي أجتاز الشارع وأنا أعدو لأحشر جسـمي في المساحات المتاحة بين الأجسام ، عندما أركب “ميكروباص” أو “أتوبيس” للنقل العام، أو وسائل النقل الآخرى التـي تـعمـل دون تذاكر ، أن أشاهد عن قرب ما يحدث للناس عندما يسعون إلى قضاء مصالحهم، أو زيارة أقاربهم، أو شراء ما يحتاجون إليه، أو الذهاب إلى عملهـم، أو التوجـه إلـى المـدارس والمستشفيات سعيا للتعلم أو للشفاء.
هكذا شاهدت الأم التي تصعد إلى أتوبيس النقـل الـعـام، ومعها أربعة من الأطفال، و” قفة”، أو الرجل العجـوز ترتعش يداه وساقاه وهو يصعد على السلم حاملا جوالا مـن الأرز، أو شيكارة من الدقيق، أو من الأسمنت الأبيض. هكذا استمعت إلى أصوات التنهد تتلوها جملة تقول ” يارب استرها “، فأصبحت أحيا ما يعانيه الناس، واستعدت أشياء عشتها منذ زمن بعيـد ، قبل أن أغدو محميا منها وأنا قابع في مقعد سيارتي أطل على المدينة كالسائح، يطل من النافذة على البشر المتزاحمين فى شوارعنا، ويتعجبون كيفيمكن أن يعيش الناس كما يعيشون في بلادنا . وهكذا بدأت أعيد التفكير في أشياء تخصني أنا عن قرب وتخص المقربين إلىَ، فزاد إحساسي بالعزلة عندما جلست مع عدد من الكتاب والنقاد والفنانيين اجتمعوا سويا ، ليصدروا بيانا ضد التعديلات الدستورية. سمعت تعليقاتهم وشاهدت حرصـهم على الجلوس خلف الميكروفون وأمام آلة تصوير تليفزيوينـة ، ليظهروا على الشاشة الصغيرة، وليضـفـوا إلـى شـهرتهم ميدالية المقاومة، بينما المقاومة الحقيقية غائبة حتى الآن في الأوساط التي أنتمي إليها، وبينما كل هذا لا علاقة له بالـذين ركبت معهم في الأتوبيس. وأصبحت أتحدث مع أناس لم يكـن بيني وبينهم حوار حقيقي ، رغم المحاولات التي أبذلها للحـديث مع الذين تشاء الظروف أن أصادفهم أثناء تنقلاتي.
في إحدى الأمسيات بعد أن شاهدت مسرحية أشاد بها أحـد كبار نقادنا ولم أجد فيها شيئا يمت إلى الفن بصلة ، كنت جالسا في سيارة للأجرة يقودها شاب، أستمع إلى تسجيل لأحد خطباء الجمعة يزعق في أذني بأعلى صـوته، فتذكرت أن زوجتـي غائبة عن الوطن والأسرة بسبب أمثاله. طلبت مـن السـائق الشاب أن يخفض الصوت ، وبدلا من ذلك رفعه إلى بأعلى مقدار ممكن، فأوقفته عند أحد النواصي ، ثم أعطيته أجـرة المسـافة التي قطعها ثم فتحت الباب وهبطت إلى الشارع.
لكن في صباح أحد الأيام التي صفا فيها الجو ، لوحت بيدي نحو سيارة للأجرة وأنا عائد من المعـادي فتوقفـت، وأطـل السائق بوجهه الأسمر وعينيه السوداوين من النافذة. قلت له: “صباح الخير يأسطى… أريد أن أذهب إلى مستشـفى معهـد ناصر. كم الأجرة ؟ “.
فحصني لحظة ثم قال : “أركب يا أستاذ سأخذ منك ما ترضى به.”
قلت : ” لا… أريد أن أعرف. لا أرغب في حدوث مناقشـة عندما نصل “.
قال : ” لن أناقشك. سأخذ منك ما تقرره.”
طلبت منه مرة أخرى أن يحدد الأجـر، لكنـه ألـح علـيّ بالركوب، مؤكدا أنه لن تحدث مناقشة، فاستسلمت، وجلست إلى جواره على المقعد.
سألني : “هل أنت من سكان المعادي ؟” .
قلت : ” لا. أنا أسكن في حدائق شبرا ” أمـام جزيـرة”الوراق”.
قال: “أحلى حتة في النيل. هل تقيم في عمارات “أغا خان” ؟ .
قلت : لا في عمارة أكثر تواضعا تطل على النيل، لكنها فـي شارع سد، بعيدا عن الكورنيش فلا أسمع ضجيج المرور”.
قال: “باين عليك بتحب الهدوء “.
قلت: نعم، وأنت ؟ “.
قال : “أنا أيضا بأحب الهدوء. لكن شغلتنا دي مفيهـاش هـدوء، وبتوع المرور بيطلعوا عينينا ، بياخدوا منا فلوس طول الوقـت. وباين عليها هتبقى أوحش بكتير في الأيام الجاية. “.
سألته: لماذا ؟.
قال: “مش شايف يأستاذ هم عاملين إيه في الدستور ؟ “.
قلت : ” وده هيأثر فيك في إيه؟ “
قال : “يأثر فيا في إيه ؟! دا هيبقى إرهاب على كل الناس، وعلى سواقين التاكسي بالذات. أي عسكري مش ظابط هيقدر يعمـل فيا اللي هو عايزه. اللي فوق بيسرقوا ومش عايزين حـد ينطق، وربنا يستر. كدا البلد هتولع “.
لمح رجلا يقف على الرصيف، وإلى جواره حقيبة ضخمة، وكيس من القماش كبير الحجم. قال : “بعد إذنك، عندك مانع ناخد الراجل ده معانا ؟ “.
قلت: ” لا “.
عاد إلى الوراء بسيارته حتى أصبح الرجل على مقربة من نافذتي. كان أشيب الشعر، طويل القامة، يرتدي بنطـالا مـن الجينز ، وقميصا أزرق اللون، وكان يبدو عليه الإرهاق.
خاطب السائق قائلا : “عايز أروح المعادي يا أسطى “.
أشار السائق بيده : ” لازم تعدي الناحية الثانية”.
قال الرجل : “معايا شيل والعربيات ما بتوقفش “.
نظر إليَ السائق وقال : ” عن إذنك أشيل معاه وأعديه.”
هبط ورفع الحقيبة الكبيرة على كتفه تاركا الرجـل ليحمـل الكيس. إجتاز الشارع بعد أن أوقف السائق السيارات المسرعة بيده، ثم أنزل الحقيبة على الرصيف المقابل وعاد.
قلت : والله فيك الخير يا أسطى “.
قال : ” اسمي “ممدوح”. الراجـل كـان تعبان ومتوتر، دلوقتي هيرتاح. هيحس إن فيه نـاس فـي الـدنيا بتساعد، وهيبقى يومه كدا حلو “.
تأملت ما قاله. ألقى إلىَ بنظرة سريعة قبـل أن يواصـل السير ثم استطرد: ” أستاذ إنت حضرتك بتعمل إيه ؟”.
قلت : ” أصلي طبيب. لكن دلوقتي بأكتب روايات “.
قال : ” بتكتب روايات عن إيه؟”.
قلت : “عن الحياة، ماهي الروايات بتبقى عن حاجات في الحياة “.
صمت قليلاً ثم قال : ” الحياة ؟ ، طيب أن هأحكي لك حاجـة. لما كان سني سبع سنين كان أبويا بيشتغل سواق عند واحـد وكيل وزارة. راجل غني قوي. ساكن في شقة كبيرة، فيها ثلاث حمامات، وصالة واسعة، وأوض كثير، وبلاكونات. مراته كلمت أبويا وقالت له: “ما تخلي “ممدوح” يبقى معايا في الشقة، يعمل حاجات، ويروح مشاوير، ويساعدني” . أبويا وافق، طلعت معاها. قعدت حاجة بتاعة أربع ولا خمس تشهر، وفي يوم قلت لأبويا : “يابا ما ترجعني في الجراج معاك. قالي: ” ليه يا بني. ما إنت كدا كويس، بتاكل أكل حلو، وبتلبس كويس، وباسطينك. ترجع الجراج معايا ليه ؟ “
قلت له : “يابا إنت مش عايزني معاك ليه ؟ ” .
قالي : ” لا عايزك معايا، بس بأدور على مصلحتك”.
قلت له: ” لا عايز أرجع معاك، فرجعني “.
سألته: “كنت عايز ترجع ليه؟”.
قال : ” والله شوف حضرتك. فوق في الشقة كانت كل حاجة حلوة. البطيخ كان أد كدا.” أشار بذراعيه مبعدا بينهما. ” شـملوخي، وحلو زي السكر. لكن أنا كنت عايز حضن أبويا يدفيني. أكـل معاه فول وطعمية، لكن أحس إن أنا معاه وهو معايـا، فـوق كانت كل حاجة باردة. كنت خدام مش حر. وإنت إذ قعدت معايا هاحكيلك حاجات كثيرة تكتبها. خد نمرة المحمـول بتـاعي أهوه. لما تيجي المعادي كلمني. نقعد على القهوة ، وأوصلك في أي مشوار زي ما أنت عايز، أنا مستريح علشان أنا راضي. ربنا بيرزق “.
قلت : ” لكن يا أسطى ممدوح ، فيه ناس كثير مش لاقيه تاكل، وناس ثانية معاها فلوس كثير، ليه الأرزاق ما يبقاش فيها عدل ؟”.
قال : ” بس يا أستاذ اللي ميتهناش في الدنيا ربنا هيعوضـه فـي الآخرة، دي حكمته وأنا راضي بحكمته، مافيش حاجة تعبـانـى غير مراتي “.
قلت : ” تعباك ليه يا ممدوح؟ “.
قال : ” بتقول عليَ ما عنديش طموح. عندنا غسالة يدوي عايزة واحدة أوتوماتيك. وعندنا ثلاجة مش كبيرة عايزة واحـدة 16 قدم. بتتعبني وأنا راجل على قدي، أصل النسوان ناقصة عقـل ودين “.
قلت: “طيب ما فيه رجالة كثير ناقصين عقل وديـن يمكـن أكثر من الستات. الستات بيراعو البيت والأسـرة، والراجـل بيحب يسرمح. أنا أعرف سـتات كثيـر عقلـهـم زي الراجـل وأحسن “.
قال : ” مراتي مش منهم “.

عند هذه الجملة كنا أمام العمارة التي أسكن فيها. دفعت له الأجر وهبطت . قال: “مع السلامة يا دكتور ما تنساش لما تيجي المعادي أسأل عليَ. معاك تليفوني. ده وعد واوعى تنساه.”

من كتاب : ” يوميات روائى رحَال ” 2008

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى