الحدث الجزائري

بلوزداد..حكايةالبطل وقصة العلم

مهند طلال الاخرس

بلوزداد

لفرط ازدحام شوارع الجزائر بالاسماء، تهبط الاسئلة تباعا، فلا يمكن ان تغادر اي مكان او شارع او حادثة دون البدء من رأس الصفحة الاولى بالعنوان، فالاسم هنا يعني العنوان، وللاسم هناك دلالة لا تغفل عنها العين النبهة..

الاسماء في الجزائر غالبا ما تفوح منها رائحة التاريخ، والتاريخ في هذا البلد قائم على المجد والمجد هنا مبني على فصول من الذكريات؛ والذكريات هنا بعضها مفرح وبعضها مبكي والكثير منها بلون الدم؛ لكنه في مجمله شكل وجه الجزائر التي نُحب..

الاسماء هنا باقية ما بقي التاريخ. فهي لا تزول لانها كتبت بالدم، والتاريخ علمنا ان ما كتب بالدم حقيقة ازلية تبقى ولا تزول…

الاسماء هنا مدعاة لكل الاسئلة، فالاسماء هنا جزء من هوية هذه الارض وهي التي ورثت وهي التي تُورث…

لا يبتعد كثيرا عن هذه المقدمة اسم بلوزداد كتجسيد واقعي وكمثال حي على انتصار التاريخ على اخيه الجغرافيا، وعلى مقدرة التاريخ الازلية في إكساب الجغرافيا اسماء ابطاله وحتى الوان فصولها.

بلوزداد هذا الاسم الذي ترتفع يافطة كبيرة فوق بوابة اكبر لتعلن انك امام نادي شباب بلوزداد الرياضي في العاصمة الجزائر، يدفعك فرط تكرار الاسم كشارع وحي ومحطة قطارات ونادي للاستئذان بالدخول، يُؤذن لك بترحاب شديد فتدخل، تتجول بين المرافق وتلتقط الصور تدخل الملعب تداعبك خيوط الشمس المنسلة من بين الغيوم والناجية من ارتفاع البنايات حول الملعب، تلوّح بالترحاب لمن اعتلوا لتوهم شرفات البنايات يناظرون الملعب، ثم يعلوا التصفيق وتنطلق الصافرات…

يعتريك شيء من الاستفهام ثم ما يلبث ان يزداد ويتحول الى استغراب، كل هذا يحدث وانا اقف في وسط ملعب بلوزداد ألوح بيدي اليمنى؛ يعلوا التصفيق ويزداد، فألوح بيدي الاثنتين لم يأخذ مني الوقت كثيرا لكي يزيل كل اثار الاستفهام والاستغراب، تلفت يمينا وشمالا استطلع الامر،؛ لقد بدا بالدخول الى ارضية الملعب فريق شباب بلوزداد.

تجاوزني بعض اللاعبين وهم يلوحوحون للجماهير على اسطح البنايات وفي الشرفات، اوقفت بعضهم اخبرتهم اني فلسطيني، عاد الاخرون سريعا، تحملق الجميع من حولي، بدأ الترحيب والعناق المصحوب بالكثير من القبلات وانتابت البعض قشعريرة اسكتناها بشيء من العناق ورغم كل ذلك سالت بعض الدمعات.

استأذناهم بأخذ صورة معهم قالوا :”لنا الشرف اخويا” لم اجب، فقد بدأت بعض الدمعات تستأذن طريقها للخروج ولم أُرد لها ذلك..

اخذنا صورة جماعية واستدرنا تجاه الجمهور الذي يعتلي الشرفات؛ لوحنا لهم بشكل جماعي كجزء من الفريق، اشار اللاعبون بأيديهم علينا، فعلت اصوات الجماهير بالتصفيق والتصفير والهتاف وانطلقت الاهازيج، لم نفهم كثيرا منها، لكن بدا لنا ان الجمهور تفهم سريعا من نحن وهذا ما أكدته الاهازيج والهتافات حيث كان هناك مقطعا فيها يقول :”الجزاير وفلسطين خاوة خاوة”، وفي مقطع آخر وهو المقطع الاجمل والذي وصلنا الى الشرق بسرعة البرق، وانتشر كالنار في الهشيم وطاف الملاعب والشوارع واصبح اهزوجة وطنية تضاف الى رصيد الغناء الوطني والموقف الوطني القادم من الملاعب، كان ذلك المقطع من تلك الاغنية لا يكل ولا يمل عن الترديد “فلسطين الشهدا فلسطين فلسطين” للحظة شعرنا ان الاغنية لا تحوي إلا هذا المقطع، وهي كذلك، إلا ان طريقة ترديده صعودا وهبوطا صراخا وهدوئا بكاءً وفرحا قفزا وتكاتفا وامواجا تلتصق بها اكتاف وسواعد الجماهير وتتمايل يمينا وشمالا ثم تقفز في مكانها ثم تعود وتلتصق الاكتاف وتترابط السواعد ثم تنفك بتصفيق حار يتسارع كلما سارت الكلمات وتنتهي تلك الاغنية فتنطلق الصافرات والتحيات وتأخذ الكلمات طريقها للسماء وكذلك الاسهم النارية”الشماريخ”، عند هذا المقطع بالذات اصابتنا القشعريرة، وكأننا على موعد مع البكاء، وهذا ما تحقق سريعا عندما رأينا علم فلسطين ينسدل من احد الشرفات…

اعدنا التلويح للجمهور لكن هذه المرة بعلامات النصر، واستكملنا السلام على من تتابع من اللاعبين والمدربين والاداريين في دخول ارضية الملعب، تبرع احدهم لمرافقتنا في اروقة النادي ومن ثم صعدنا للمنصة نتابع التدريبات، كانت الحصة التدريبة للفريق كافية بالنسبة لنا لنتعرف على بلوزداد الاسم والمكان وسرعان ما اكتشفنا بلــوزداد البـطـل الحقـيقـي.

شباب بلكور؛ هكذا كان يسمى فريقنا منذ التاسيس في 1962 الى غاية 1995 الى ان تم تغيير اسم الفريق بصفة رسمية من بلكور الى بلوزداد، وهذا ماتم في عهد رئيس الشباب الراحل حميد ايت اقرين، واضاف: هذا الفريق الذي تشاهدون يلقب بالشباب الكبير وأولاد بيلكور وأولاد لعقيبة، وهذا الملعب هو
ملعب 20 أوت 1955 وسعته 15000 متفرج.

بدافع الفضول مني وقد بدات افواج من الجماهير بالدخول لمتابعة تدريبات الفريق قلت لمضيفنا، أتكفي مثل هذه المدرجات على جمالها لمثل هكذا جمهور عاشق للكرة حد الجنون؟ اجابني معك حق، لقد تقدمت إدارة الشباب بطلب لبلدية بلوزداد منذ اشهر لاستغلال الملعب وتوسعة المدرجات ولزيادة عدد المقاعد، ولكن الطلب قوبل بالرفض، وعليه قدم رئيس مجلس الإدارة عمارة شرف الدين للوزارة طلبا لاستئجار ملعب براقي بعد افتتاحه، بالاضافة الى استغلال وتحديث مرافق الخروبة.

بلوزداد هذا الاسم الذي يملك تاريخا مشرفا في كرة القدم بالجزائر هو ايضا يملك تاريخا اكثر تشريفا في ثورة الجزائر المجيدة، فمن طهارة التاريخ في بعض الاحيان ومن جميل الصدف في احيانا كثيرة، ان تتعرف على بعض احداثه واهم سطوره من خلال الاسماء والتي تشكل عناوين الوجود والنهوض في فترة معينة، لكن في الجزائر البلد المعمد بالدم والتاريخ ولفرط ازدحامها بالاسماء فإنك ترى ان حتى كرة القدم اخذت حصتها من تلك الاسماء..

من على المنصة والتي لا نعرف ماذا نتابع منها؛ اننصت لشرح محدثنا عن بلوزداد البطل الحقيقي، ام انتابع اللاعبين، ام الجمهور على الشرفات حيث تتسابق الايدي للامساك بعلم فلسطين وتصدح الحناجر وهي تغني وتهتف لفلسطين، وطبعا من نافلة القول اننا لا نستطيع الافتهام مما يقولوا شيئا إلا ذلك الاحساس بالقشعريرة عندما يهدر باسم فلسطين..

شُدت آذاننا نحو مضيفنا بشغف وهو يحدثنا عن محمد بلوزداد البطل الحقيقي؛ هذه الشخصية التاريخية المناضلة والتي اكتسب فريق بلوزداد منه اسمها، وليس النادي فحسب؛ وانما محطة القطارات المجاورة، والشارع الرئيسي كذلك، وحتى الحي او البلدية نفسها بل والمنطقة برمتها….

محمد بلوزداد من مواليد 3 نوفمبر 1924، من عائلة بسيطة تقطن في الحي الشعبي ببلكور، كان والده يملك كشكا لبيع الجرائد في هذا الحي …

وقد شهد حي بلكور الشعبي نمو الحس الوطني لمحمد بلوزداد الذي تحصل على شهادة الباكالوريا سنة 1944 بعد أن درس بمدرسة كوسمي بالحامة وبثانوية ميدان المناورات وهي مدارس فرنسية .

ومن ثم عمل لدى مصالح مديرية الشؤون الإسلامية للحكومة العامة وواصل تعليمه وهو يناضل في نفس الوقت بعدما انخرط سنة 1943 في صفوف حزب الشعب الجزائري بخلية بلكور وخوّلت له وظيفته الإدارية إطلاع قيادة الحزب على الكثير من الوثائق ذات القيمة المعلوماتية الكبيرة ومن تم صعد بسرعة إلى قيادة حزب الشعب وساهم في إخراج جرائد الحزب السرية مثل الوطن الذي صدر أول عدد لها في جانفي 1944، ولما قررت قيادة الحزب في ماي 1945 توسيع الحركة الثورية كان بلوزداد من بين القيادين الاوئل الذي عمل على نشر فكرة الحركة الوطنية في جميع انحاء الوطن بعدما كانت مقتصرة فقط على العاصمة وهذا ماجعله موضع متابعة من قبل الشرطة الاستعمارية.

وعقب الأحداث الدامية التي جرت بسطيف وقالمة سنة 1945 والتي أسفرت عن توقيف القادة ومعظم المناضلين تم اختيار محمد بلوزداد سنة 1945 للتكفل بمناضلي الشمال القسنطيني باعتباره عضوا ناشطا بالحزب.

وبعد عمل جبار تمكن محمد بلوزداد من إعادة تنظيم هياكل الحزب وإنشاء خلايا في المناطق التي لم يكن فيها الحزب موجودا حيث تم إنشاء الخلية الأولى بمساعدة محمد عصامي والذي كان مصطفى بن بولعيد أحد أعضائها الأولين.

وفتح له جهده النضالي عضوية المكتب السياسي لحركة الانتصار في مؤتمرها المنعقد في فيفري 1947، واتصل بالمناضل رقيمي جيلالي ليرتب معه هيكلة المنظمة الخاصة في الجزائر العاصمة .

كان محمد بلوزداد هادئا وقليل الكلام، ولكن هذا لم يمنعه من ان يكون مناضلا صارما حازما في مواقفه التي كانت دائما واعية ومنظمة.

كرس بلوزداد حياته كلها للجهاد في سبيل الوطن وقام بعمله النضالي بشجاعة وحماسة وثقة كبيرة مؤمنا دائما باسترجاع الحرية والسيادة ولو غلا الثمن ….

وفي فيفري 1947 قرر الحزب خلال مؤتمره إنشاء منظمة شبه عسكرية سرية للشروع في الكفاح المسلح واختير محمد بلوزداد لإدارة المنظمة التي سميت بالمنظمة الخاصة حيث تولى بعزم وحزم مسؤولياته الجديدة إلى غاية سنة 1949 حيث اصيب محمد بلوزداد بمرض السل الذي الزمه الفراش، ولكن هذا لم يمنعه من مواصلة الجهاد الى ان فارق الحياة في 14 جانفي 1952 عن عمر يناهز 28 سنة فقط.

نهض محدثنا من على المنصة واشار بيده حيث يرقد جثمان محمد بلوزداد بجوار كل من احمد صنهاجي وامينة بلوزداد وحسيبة بن بوعلي وزبير بوعجاج وعبدالرحمن الجيلالي والعربي زكال وعيسات ايدير ومالك بن نبي ومحمد البشير الابراهيمي في مقبرة سيدي امحمد بوقبرين في قلب الحي الشعبي في بلكور مسقط راس محمد بلوزداد والذي اصبح يتزين باسمه عرفاناً ووفاءً.

لازالت الجماهير تتوافد تباعا على المدرجات وتتدافع الاخرى على الشرفات وفوق اسطح البنايات ومرة اخرى عاد وانسدل العلم …

انسدل العلم فسالت معه هذه المرة كل الدمعات التي بحوزتنا، وكأنها متلازمة فلسطينية، فحيث يكون العلم يكون الدمع ايضا، واحيانا الدم واكثر.

اسهم محدثنا بالتخفيف من حرج الدمعات علينا حين قال لنا: لا عليكم نعرف قيمة هذه الدمعات عند رؤية هذا العلم .

كنت احسب كلامه من باب التخفيف علينا، لم اكن اعلم بقصة العلم الجزائري لديهم، شائت الاقدار ان يكون اصل الحكاية لدى محدثنا، لكن الاشاءة الاكبر كانت للقدر في ان تكون حكاية العلم في هذا الحي بالذات.

تشابكت يدي مضيفنا خلف رأسه واخذ يهزه يمينا وشمالا، ثم اسند ظهره على المقعد حيث نجلس على المنصة، واخذ يرفع راسه ويُخفضه مرارا وتكرارا، كان يسترجع كل تلك الحكاية التي تمثلها تلك الراية.

اما انا فقد كانت نظراته حيث يصوبها وصوته وهو تنطلق منه تلك الحروف التي تطرز كلمات الحكاية كفيلا بتخيل الفصل الاجمل في تلك الحكاية. لحظات وذهبت عيوني الى خشبة مسرح تعود فصولها الى عام 1960، الى ليلة رطبة من ليالي الشتاء بالعاصمة وبالتحديد في ليلة 11 ديسمبر، ففي تلك الليلة إذا استرقت السمع واقتربت من منازل الجزائريين لا تسمع إلا همساً يشق صمت الليل وضوءا خافتاً ينبعث من إحدى نوافذ بيوت الكاريار والعقيبة وشارع الشيخ الكمال وديار البابور لنساء ورجال تجافت جنوبهم عن المضاجع لأن مهمتهم كانت خياطة العلم الوطني.

وفي صباح الأحد11 ديسمبر كانت المواجهة، حيث تدفقت جموع الجزائريين دون استثناء واحتلت الشوارع وتركزت في أعالي شارع بلوزداد (ليون سابقا) وهم يرددون شعارات تعبر عن دعمهم لجيش وجبهة التحرير الوطني والحكومة المؤقتة وهم يحملون العلم الجزائري الأخضر والأبيض يتوسطه هلال يحتضن نجمة والشوارع بدورها تحتضن الجميع.

كنا ننصت لصوت محدثنا بخشوع، كنت احس بأني من يرفع ذلك العلم في ذلك الموقف، شعرت بعبق التاريخ وارث الاجداد يسري بدمي، تذكرت معركة مؤتة الخالدة وكيف تسابق القادة الشهداء على رفع الراية وكيف استشهد كل من حملها، رايت غبار مؤتة امامي ورايت الوجوه وكيف تهوي السيوف وكيف يُقتل البشر، وكيف تتسابق السواعد وتتهاوى الرؤوس؛ لتبقى الراية مرفوعة، بلمح البصر، رايت كل شيء في المعركة، لكني لم أرّ أحداً ينتصر!

رايت الثورة الفلسطينية الكبرى في عام 1936، وسمعت نداء الثورة الى كل المواطنين الفلسطينيين بضرورة ارتداء الكوفية من قبل الجميع حماية للمجاهدين…رأيت كيف اصبحت الكوفية السوداء المرقطة رمزا للفدائيين بعد الانطلاقة في 1965. رأيت كيف اصبحت الكوفية رمزا للفلسطينيين وهوية يخبئونها حيث يخبئون البندقية والعلم.

صحوت على صوت مضيفنا وقوله: كان اهم ما ميز تلك الأيام الخالدة رفع العلم الجزائري، كان ذلك الحدث تاريخيا بمعنى الكلمة، قبل هذه الحادثة لم يكن في ذهن الكثير من الجماهير صورة أو فكرة عن ذلك العلم، وبعدها استطاع اصحاب هذا العلم ان يصنعوا منه رمزاً للجزائر.

قبل ذلك اليوم كانت ألوان العلم تتردد ممن يروون الأنباء الواردة من الجبال بهمس، لكن لا أحد يملك تصورا محددا له.

كانت مظاهرات 11 ديسمبر بمثابة اليوم الذي تعرف الجزائريين به على علم بلادهم. ومنذ ذلك اليوم اصبح للجزائريون علم وطني يهدونه للسماء ويلفون به الشهداء الى مثواهم الاخير ليدفنوا به.

ومنذ ذلك اليوم ورؤية العلم تثير لدينا نشوة وإحساسا بأن الحرية آتية لا محالة وستنتصر طال الزمن ام قصر.

قلت والكثير من الدمعات تبلل وجهي؛ هذه اسباب وجيهة لمزيد من الدمعات، قال: لا ضير بالمزيد من البكاء، وسكت لبرهة والتقط انفاسه وعاد واضاف، لا عليك ، اغتنم الفرصة وابكِ كيفما تشاء، فالبكاء صوت انين الروح لخالقها، وصوت صدى الحنين لارض فلسطين..

قلت لمحدثي ونحن ننزل عن المنصة مودعين العلم والجمهور واللاعبين، اذن تغيير اسم بلكور الى بلوزداد كان تمجيدا لهذه الشخصية الثورية المجيدة، فاجاب، نعم، وسيبقى اسمه يذكر على كل لسان وعلى مر الاجيال، كيف لا وقد سمي عليها شارع رئيسي ومحطة قطارات وحي كبير ذو تاريخ عريق تطور واصبح مدينة وفريق يعد من ابرز الفرق في العاصمة الجزائرية.

قلت لمن معي: اترى، انهم يعطون الشهداء اجمل ما فيهم، اجابني: الآن عرفت أن الاسماء مرايا التاريخ تضيء بضيائها وتظلم بظلامها.

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى