الإرث والقضايا الأخلاقية بين الشريعة والعرف
حنضوري حميد
كاتب وباحث في التاريخ
عرف المغرب في بداية القرن العشرين لضبط وتسيير أمور حياته الاجتماعية والاقتصادية والسياسية، نوعين من مصادر التشريع؛ وهما قانون الشريعة الإسلامية والقانون العرفي، وكان للسلطات الاستعمارية تأثير في تثبيت هذين المصدرين. فعملت على استخدامهما للتفريق بين مناطق البلاد وسكانها: فسمت المنطقة الأولى بلاد المخزن، وتحتكم في أمور حياتها إلى قانون الشريعة الإسلامية، وأطلقت على المنطقة الثانية بلاد السيبة وهي مناطق القبائل الأمازيغية الخارجة عن ولاء سلطات المخزن. وتحتكم هذه الأخيرة في تنظيم جوانب حياتها للقوانين العرفية. تتناول هذه المقالة بعض الاختلافات بين قوانين الشريعة والقوانين العرفية في المغرب خلال فترة الاستعمار ، ولا سيما: حق المرأة في الميراث ، والقضايا الأخلاقية، والغرض من القوانين.
لعب كل من قانون الشريعة الإسلامية والقانون العرفي الأمازيغي في المغرب خلال مرحلة الاستعمار الفرنسي دورا مهما في تنظيم مجموعة من القضايا الأخلاقية والحقوقية، وبالرغم من أن الغاية من القوانين واحدة، إلا أننا نجدها تختلف في المنطلقات والمبادئ، فقانون الشريعة الإسلامية مثلا ينطلق من مصدر إلهي، بينما يتخذ القانون العرفي العادات والتقاليد الاجتماعية منطلقا له لتأسيس نصوص تنظيمية. وهذا الاختلاف في مصادر التشريع جعل هذين القانونين يختلفان في طريقة التعامل مع عدد من القضايا المتشابهة، ولكل قانون خلفية تبرر تعامله. فمثلا في قضية حق المرأة في الإرث نجد الشريعة الإسلامية تمنح للمرأة نصف حق الرجل، لأن الرجل في الثقافة الإسلامية له القوامة، ويجب عليه أن يتحمل المسؤولية، ويوفر كل متطلبات الأسرة. بينما المرأة تحتفظ بحقها من الإرث دون أن تتصرف فيه أحد. أما قانون الأعراف الأمازيغية فيحرم المرأة من الإرث بشكل كلي، بالرغم من الأدوار المهمة التي تلعبها داخل الأسرة والمجتمع. وما يبرر عدم تمكينها من الإرث في القانون العرفي، هو أن الأسرة تعمل كخلية إنتاجية متكاملة ويسودها نوع من الهيمنة الذكورية، ويرى الذكور من الأسرة أن إرث المرأة سينتقل إلى أسرة زوجها، وبهذا الحق سينقص الزوج الغريب من ممتلكات الأسرة عن طريق المصاهرة. وبناء عليه تحول الأسرة دون ضياع ملكيتها بمنع المرأة من الإرث. ونلاحظ في هذا الصدد أن قانون الشريعة الإسلامية راعى حقوق المرأة في الإرث، فضمن لها بذلك الاستقرار الأسري مقارنة بتعامل بنود القانون العرفي في هذه القضية.
أما الاختلاف الثاني و الواضح بين هذين القانونين، فيكمن في العملية التنظيمية لمجموعة من القضايا الأخلاقية، كالقتل والسرقة والزنا … حيث نجد أن قانون الشريعة الإسلامية تعامل مع جريمة القتل بنوع من التشديد في الحكم، باعتبارها من أبشع القضايا الأخلاقية، حيث تحكم على الجاني بالقتل، أو ما يسمى بـ”القِصاص” أي يعاقب الجاني من جنس فعله، أما السرقة فهي الأخرى تعتبر سلوكا غير أخلاقي لأنه يسيئ للمجتمع، ولهذا تكون عقوبة الجاني مشددة حسب أحكام قانون الشريعة. وهكذا تقطع يد السارق كحكم في حق ارتكابه لهذه الجريمة غير الأخلاقية. أما حكم الزاني في الإسلام فهو الجلد أو القتل حسب نوع الزنا المرتكبة. باعتبار أن جريمة الزنا تأخذ أبعادا اجتماعية أخرى، حيث تسيء لشرف المرأة و الأسرة والمجتمع، وبالرغم من أن هذه الأحكام قاسية في حق الجاني إلا أنها تعتبر عادلة في منظور الفلسفة القانونية للشريعة. في المقابل نجد قانون الأعراف الأمازيغية يختلف في طبيعة الأحكام مقارنة بالقانون السابق، حيث يتعامل في كل القضايا التي أشرنا إليها سابقا بإصدار العقوبات المالية على شكل غرامات متفاوتة حسب نوع الجريمة الأخلاقية المرتكبة، إلا إذا استثنينا جريمة القتل حيث يكون الحكم فيها على الجاني بغرامة مالية تسمى “الدية” وينفى الجاني من مجتمعه لمدة سبع سنوات، وبهذا لم يعرف القانون العرفي في أحكامه أيّة عقوبة جسدية ولا سجنية نهائيا مقارنة مع قانون الشريعة. وبهذا يمكن القول إن القانون العرفي في أحكامه أكثر واقعية ومرونة في الحفاظ على كرامة الفرد والمجتمع.
أما الجوهر في فلسفة قانون الشريعة الإسلامية وقانون أعراف القبائل الأمازيغية فلا يختلف من حيث الغرض و الغاية. فإذا تأملنا جيدا في روح وفلسفة هذه القوانين نجدهما يتشابهان إلى حد التطابق من حيث الغاية، فقوانين كل من الشريعة الإسلامية والقوانين العرفية الأمازيغية تسعيان معا إلى حماية حقوق الفرد والجماعة، وترسيخ الوعي الجماعي بالنظام، وتحمل المسؤولية المشتركة في المجتمع، والهدف المشترك هو ضمان الأمن داخل المجتمع، ومحاربة الفوضى والاعتداءات، ودفع المفاسد وجلب المصالح في المحيط الذي تحكمه هذه القوانين. فكلاهما جعل حماية الفرد من أي خطر يهدده، وسلامته من أي مسّ بكرامته، أو اعتداء على حقوقه، أو انتهاك لحريات جسده، أو مس بشرف المرأة. ولهذا نجد مجموعة من النصوص في كلا القانونين تنص على تنظيم كل القضايا الأخلاقية والحقوقية ومحاربة الاعتداء والفوضى..
ونافل القول إن الشريعة الإسلامية والقانون العرفي، تعاملت بشكل مختلف مع بعض القضايا الاجتماعية. ولقد قدموا إجابات لبعض الاستفسارات الاجتماعية والفردية بالأحرى قضايا ميراث المرأة و بعض القضايا الأخلاقية بشكل عام ، كما يعتبر القانون العرفي جزءًا لا يتجزأ من الفقه الإسلامي الذي يحتاج إلى التعمق البحث في ما هو مشترك بين الاثنين، وخصوصا تلك القوانين التي قد تخدم بشكل أفضل كل المواطنين أفرادا وجماعة في وقتنا الراهن.