أمن وإستراتيجيةجواسيس

نساء المخابرات

مازن خالد

في عام 1994 انتجت السينما المصرية فلم “كشف المستور”(1) للمخرج عاطف الطيب وتأليف الكاتب وحيد حامد، وتدور احداث الفيلم عن قصة عميله في المخابرات المصرية تدعى (سلوى شاهين)، والتي لعبت دورها الفنانة القديرة نبيلة عبيد، تركت العمل مع المخابرات، ويتم الضغط عليها وابتزازها للعودة للعمل وتقديم خدمات جديدة للمخابرات من خلال شرائط فيديو وأفلام سجلت لها خلال فترة خدمتها السابقة. وخلال حوار ساخن لها مع مديرها السابق “جنرال السراير” تحدثت شاهين بإسهاب ومراره عن عملها السابق والعمليات التي قامت بها لخدمة بلدها، وعن السنوات التي قضتها في المخابرات، وقد سلط الفلم الضوء على الأعمال القذرة للمخابرات ونساء المخابرات، وفي الواقع فان المخابرات المصرية كانت السباقة بين أجهزة المخابرات العربية التي استعانة بالنساء لتقديم الخدمات القذرة والقيام بأدوار ومهام خاصة.
واما في العراق، فمثلما استوحى صدام حسين فكرة انشاء جهاز المخابرات العراقية من مصر من خلال تعامله مع مخابرات جمال عبدالناصر خلال فترة اقامته في القاهرة، فقد فسح صدام المجال امام المخابرات للاستعانة بخدمات النساء، ففي بادئ الامر عرض صدام فكرة استعانة المخابرات بالنساء في العمل المخابراتي على الرئيس احمد حسن البكر، الا ان البكر رفض الفكرة رفضاً قاطعاً، وعلل ذلك الرفض بالحفاظ على شرف المرأة العراقية وكيان الأسرة والمجتمع والقيم العربية والاسلامية(2).

شعبة النساء

الا انه وفي عام 1979 وعقب أقصاء البكر من سدة الحكم، وتولي برزان التكريتي رئاسة المخابرات، تم تشكيل شعبة خاصة في المخابرات عرفت بـ “شعبة النساء” تابعة للمديرية العامة للخدمة السرية (M-5) في الجهاز(3)، وتم تعيين السيدة افتخار احمد ايوب(4) على رأس هذه الشعبة، وتعاونها السيدة وداد عبدالهادي(5).

وعبر العنصر النسوي وشعبة النساء أدار جهاز المخابرات العراقي شبكة واسعة من النساء عملن في مختلف المؤسسات والوزارات والشركات والمكاتب والفنادق وحتى البيوت، وشملت هذه الشبكة الواسعة نساء من مختلف فئات المجتمع العراقي من ربات البيوت الى الموظفات العاملات في شتى قطاعات الدولة، وقد ارتبطن بالجهاز عبر ضباط اتصال او عن طريق الانتساب، ولقد تلقى الجهاز منهن التقارير الدوري والمعلومات المختلفة عن رصد العراقيين والعرب والاجانب مقابل مرتبات ومكافآت مالية مغرية(6). ولم يقتصر عمل شعبة النساء على استدراج العراقيات للمهمات القذرة بل تخطاهن إلى الاستعانة بالنساء العربيات والأجنبيات المقيمات او العاملات في العراق(7) حيث كان المختصين في المخابرات يدرسون ملفات كل النساء المقيمات في العراق لاختيار العناصر التي تناسبهم في أعمالهم ومهماتهم لتجنديهن.
كما كانت جميع العاملات في المطاعم والمقاهي والنوادي والملاهي الليلية عميلات لشعبة النساء، وعلى سبيل المثال فإن كل راقصة كانت تتقدم للعمل في ملهى او نادي ليلي لا تحصل على عقد العمل، إلا بعد أن تتعهد بالخدمة للمخابرات، كما ان بعض الفنانات والمطربات والراقصات العراقيات انخرطن في دورات خاصة في جهاز المخابرات تعلمن خلالها فنون التجسس وطرق التسجيل والتصوير السري عبر الكاميرات واللاقطات الصوتية، كما كلف البعض منهن بمهام مراقبة بعض الدبلوماسيين العرب والأجانب العاملين في العراق او الايقاع بهم، كما وشاركت البعض من عناصر شعبة النساء في تنفيذ عمليات الاغتيال والتصفية التي قام بها جهاز المخابرات.

الجاسوسة التي آذت العراق

وكما كان لمخابرات العراق جاسوسات، فأن للأجهزة المخابراتية الاخرى في العالم جاسوسات عملن ضد العراق، ومن ابرز تلك الجاسوسات، والتي لعبة دوراً تأذى منه العراق كثيراً، وساهمت في تدمير البرنامج النووي العراقي، كانت هي جاسوسة جهاز الموساد ووزيرة الخارجية الإسرائيلية السابقة “تسيبي ليفني”.

ففي عام 1978 بدأ جهاز الموساد “عملية ابو الهول”(8) وهي سلسلة من المكائد والدسائس، والدبلوماسية الدولية، وأعمال التخريب والتجسس والاغتيالات التي نسقها الموساد لإجهاض المشروع النووي العراقي، والتي انتهت بتدمير مجمع 17 تموز النووي (أويزراك) بالقرب من العاصمة العراقية بغداد في غارة جوية نفذها الطيران الإسرائيلي. وكانت ليفني احد اعمدت تلك العملية ومن العميلات الاستثنائيات ضمنها.

ففي أوائل الثمانينات كانت ليفني جاسوسة من الدرجة الأولى في محطة باريس، وتوزّع مهام عملها ما بين التجسس وجمع المعلومات عبر العمل كمدبرة منزلية في احد منازل العاصمة الفرنسية باريس خلال الفترة ما بين أعوام 1980-1984. وكانت ليفني التي تتحدث اللغة الفرنسية بطلاقة، وتنحدر من عائلة يهودية ـ فرنسية، التحقت بجهاز الموساد بعد ان أنهت خدمتها العسكرية كملازم أول في الجيش الاسرائيلي، حيث أرسلها الموساد للعمل لصالحه في أوروبا، والتي كانت في ذلك الوقت ساحة لمعارك طاحنة بين الموساد وعدد من قيادات الفصائل الفلسطينية وطموحات صدام حسين النووية.

وتحت الاسم الحركي “جاكلين”(9) وبغطاء طالبة تنحدر من جنوب فرنسا، وتعمل في بيع العطور لجني المزيد من المال، استطاعت ليفني الاطاحة بالعالم النووي العراقي (ع.خ) احد علماء المشروع النووي العراقي، والذي كان يعمل بأمر من الحكومة العراقية في مصنع سارسيل النووي شمال العاصمة باريس ضمن المشروع السري العراقي لبناء البرنامج النووي وعن طريق العالم (ع.خ) استطاع الموساد الحصول على المعلومات الرئيسية التي ادت الى تصفية العالم النووي المصري الدكتور يحيى المشد ابو المشروع النووي العراقي، وتفجير قلب المفاعل النووي العراقي قبيل شحنه الى العراق بأيام داخل ورشه في مدينة طولون الفرنسية (10)، كما وبفضل المعلومات والخرائط التي حصل عليها الاسرائيليين عبر لفيني من (ع.خ) كان الطيارون الاسرائيليون يعرفون بالضبط اين يضربون ليوقعوا اكبر ضرر ممكن في المفاعل العراقي، وذلك بأنزال قبة المفاعل على قلبه خلال الغارة الجوية التي شنتها اسرائيل ضد المفاعل العراقي(11).

السم يقتل فيل

عقب نهاية حرب الخليج الثانية برز أسم الدكتور احمد الجلبي كزعيم للمعارضة العراقية المدعومة من الولايات المتحدة، وبذلك أصبح الجلبي الهدف رقم واحد لنظام صدام وجهاز مخابراته، وبعملية معقدة كانت بأشراف مباشر من قبل معاون مدير جهاز المخابرات العراقية اللواء عبد حسن المجيد(12)، وبالتنسيق مع مدير مديرية مخابرات محافظة صلاح الدين استطاع جهاز المخابرات زرع امرأة، كانت احد عناصره، للعمل كخادمة في المقر الأمني للمؤتمر الوطني العراقي في مدينة أربيل، وقد كلفت هذه المرأة باغتيال الجلبي وذلك عبر دسم السم له(13)، الا انه تم كشف أمرها عبر تسريب معلومات سرية عن مهمتها من داخل المخابرات العراقية لصالح وكالة المخابرات المركزية الأمريكية (CIA)، فتم اعتقال المرأة من قبل أمن المؤتمر الوطني برئاسة سيف سندي وضبط بحوزتها زجاجة صغيرة شبيه بالآبر الطبية القديمة كانت تحتوي بداخلها على مادة بيضاء كالملح كان هي عبارة السم الى خصص لاغتيال الجلبي، وفيما بعد، قام الجلبي بأرسال الزجاجة الى المختبرات الجنائية لسكوتلاند يارد وبعد تحليل المادة عرف انها من أخطار انواع السموم، وانها من تصنيع المخابرات العراقية، وان جرعة بسيطة منه كفيلة بقتل كائن حي بحجم الفيل.
وعلى الرغم من ان الجلبي نجا من الموت الا ان سيف سندي ضابط الشرطة الكردي السابق، ومدير أمن المؤتمر الوطني العراقي، والمسؤول المباشر عن احباط عملية اغتيال الجبلي واعتقال مجندة المخابرات العراقية والتحقيق معها، قتل في الانفجار الذي أستهدف المقر الأمني للمؤتمر الوطني في مدينة اربيل، والذي كان من تدبير المخابرات العراقية، وقتل فيه 28 عنصر من عناصر المؤتمر الوطني ومن بينهم السندي(14).

العمل حتى النهاية

وفي 04 نيسان/أبريل 2003 وبينما كانت القوات الأمريكية الغازية تزحف نحو العاصمة بغداد، وبينما كان مدير المخابرات العراقية ذاته قد توارى عن الانظار، فأمر صدام بإقالته من منصبه واعدامه فور اعتقاله، قامت اثنان من نساء المخابرات العراقية بعملية انتحارية عبر تفجير نفسيهما بواسطة سيارة مفخخة ضد حاجز عسكري للقوات الامريكية بالقرب من سد حديثة في محافظة الأنبار غربي العراق، وكانت هذه المجندتين هما كل من (نوشه الشمري) و (وداد الدليمي)، وفيما بعد أدعى مدير المخابرات العراقية طاهر جليل الحبوش بانه هو شخصيا كان المشرف على تلك العملية.
وفي الختام اقول كانت البريطانية المس بيل (غيرترود بيل) والتي لعبة دوراً رئيسياً في تشكيل العراق الحديث عبر اقتراحها مع توماس إدوارد لورنس (لورنس العرب) قيام المجلس التأسيسي للدولة العراقية، وتنصيب الأمير فيصل بن الحسين ملكًا على العراق، كانت اول الجاسوسات التي عرفها العراق الحديث والعراقيين وقد أثرت في ماضيهم وحاضرهم ومستقبلهم.

واليوم تقبع جاسوسه اخرى داخل أسوار السفارة الامريكية في المنطقة الخضراء ببغداد، هي السيدة إلينا رومانوسكي (68 عاماً) الدبلوماسية الاميركية التي تتمتع بخبرة أربعة عقود من العمل في مختلف الدوائر والوكالات الأمريكية، من بينها العمل لما يزيد على عقدين لصالح وكالة الاستخبارات المركزية CIA، فقد التحقت رومانوسكي بـ CIA عندما كانت طالبة في جامعة شيكاغو، وتدرجت في المناصب المختلفة في لانغلي من محلل استخباراتي في قسم الشرق الأدنى وجنوب آسيا في الى ان وصلت الى منصب مديرة لشعبة العراق في الوكالة. وهذه الجاسوسة العتيدة، لعبت وستلعب دوراً مهما في تاريخ عراق اليوم، وسيذكرها العراق والعراقيين كثيراً في المستقبل القريب.

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى