ثقافة

بابُ الحريَّة بكلِّ يدٍ مُضرَّجة يُدقُّ

بابُ الحريَّة بكلِّ يدٍ مُضرَّجة يُدقُّ
عبد الرزاق دحنون

أطمح كباحث أن أتعلّم من الواقع الاجتماعيّ في حركته، وأندمج فيه، وبذلك أقف على أرض مُنتجة، أحرثها، وأبذرها، أتعب في سقايتها، وتعشيبها، وتنميتها، ومن ثمّ أحصد، أسوق المحصول إلى البيدر، أُذرّي، في يوم ريح، وأجمع حبَّاً. لأن
معادلة الوقوف على أرض فكريّة صلبة لم تَعد برهاناً راسخاً، البناء المُشيَّد لا بد له من أرض جبليّة صلبة، راسخة، تحميه من الزلازل، أما نحن معشر البشر الذين ندّعي امتلاك نظريّة علميّة للمعرفة، فإننا نحتاج دائماً إلى إعادة إنتاج قيمنا المعرفيّة وفقاً لحركة الواقع وزلازله، وهذا في ظني “لب فلسفة كارل ماركس”، ذلك أن العلم والنظريّة العلميّة تبدأ من الواقع التجريبيّ في حركته، لتعطي لهذا الواقع دفعة إلى الأمام في سبيل حياة أفضل للبشريَّة.

وفق هذا الفهم، يذهب بنا هذا المقال بعمق أكبر لبحث معادلة ارتباط الدم بحياتنا السياسيّة والاجتماعيّة، وفي المعركة التي يخوضها البشر من أجل وقف سفك مزيد من الدماء. وهي مُعادلة محيّرة على أي حال، فمن أجل أن نمنع سفك الدماء علينا أن نقدم المزيد منها في ساح المعارك. وبما أن الدم يصل إلى قلب الأشياء فهو يبقينا على قيد الحياة باندفاعه عبر أوردتنا وشراييننا مما يجعله يقوم بتغذية أجسامنا وإصلاحها بصورة مستمرة. القلب البشري مضخة عضليّة تعمل على دوران الدم في جميع أجزاء الجسم. وبحلول عيد ميلادنا السبعين سيكون القلب قد عمل على
ضخ أكثر من 150 مليون ليتر من الدم.

لكن الدم كرمز للأسرة أو العشيرة أدى في أحيان كثيرة لإشعال الحروب وتقسيم المجتمعات. فهناك شيء عميق بخصوص الدم يدفعنا قسراً لإقامة علاقة خاصة معه. الدم أكثر كثافة وأكثر ثمناً من الماء، والدم الفاسد يُثير الضغائن والأحقاد، وقد يؤدي إلى إشعال عنف يُريق الدماء. وقيل إن باب الحريَّة بكلّ يد مُضرجة يُدقُّ.
وفي المعجمات تَضَرّجَ بالدم: تلطّخ به. وضَرَّج أنفه تضريجاً، أي أدماه. وبالنسبة لبعض الأمم، يمثل الدم جزءاً من العقد الاجتماعي الذي تبرمه مع الدولة. ورغم أن البعض يعتبر الدم مقدّساً، فقد جاء في الحديث ما لفظه: إنَّ هدم جدار الكعبة أهون على الله من سفك دم مسلم. وأظن كلمة مسلم في موضعها هذا، عامة، شملت البشر
جميعاً. نجد الغير يستخدم الدم في أعمال نجسة رخيصة. وأخص بالذكر قادة

الحروب والحُكّام من ملوك وسلاطين وأمراء ورؤساء مع أجهزتهم القمعية. وقد كنا نسمع فيما مضى من أيام هتاف مسيرات تأييد الحاكم العربي شعار (بالروح بالدم نفديك يا عدنان!) وقد قدم (ياقوت الحموي) دمه وحنجرته -ثمناً غالياً على مذبح الحريَّة- لأنه كان يَهْتِف هتافاً جريئاً صادقاً حقيقياً، مفعماً بالنبل والوجدان، فقتله السلطان.

بدأ الصليب الأحمر أول خدمة في العالم لنقل الدم البشري في بريطانيا في عام 1926 وتوسَّعت بنوك الدم وصولاً إلى الولايات المتحدة في أواخر عقد الثلاثينيات من القرن العشرين. وخلال الحرب العالميّة الثانيّة التي ابتليت بها
البشريَّة جرى تشجيع المواطنين على التبرع بالدم من خلال نشر الملصقات وترويج الحكايات عن عمليات نقل الدم التي تجري تحت نيران القنابل والبراميل المتفجرة وتبدو فيها زجاجات الدم معلقة في زناد البنادق المغروسة في الطين بجوار
الجرحى. لكن دوافع المتبرعين كشفت عن تلك المشاعر العميقة التي يثيرها الدم،
فالنازيون أيام هتلر منعوا اليهود من التبرع بالدم إصراراً منهم على نقاء الجنس الآري، مما جعل الأمة الألمانية تُعاني من نقص شديد في إمداد الدم مع احتدام الحرب.

في الولايات المتحدة الأمريكية أدى التحيّز العرقيّ إلى توسيم عينات الدم المأخوذة من متبرعين سود، وفصلها عن تلك من المتبرعين البيض. وعلى الرغم من ذلك،
فقد أنقذ نقل الدم حياة أعداد لا تُحصى من البشر، كما أن النواتج الثانويّة للدم خلقت أنواعاً من العلاج أدت لتغيير حياة آخرين، مثل المصابين بالناعور. لقد تحسن فهمنا للدم بصورة هائلة، لكن استخدامه سيبقى قضية اجتماعيّة وسياسيّة عميقة لسنوات طويلة قادمة. وبعد أن وضعت الحرب أوزارها، حين لم يعد التبرع بالدم مدفوعاً بالحماسة الوطنيّة، تباينت مواقف الشعوب؛ فقام البريطانيون والفرنسيون بالتبرع بدمائهم مجاناً لمصلحة بنوك الدم الخيريّة. باعتبار ذلك جزءاً من عقد اجتماعي.
وأعتقد أن هذا العقد الاجتماعي المقدّس المُبرم والموقع بالدم بين الفرد ودولته حمى الفرد الحر من بطش الأجهزة الأمنية.

يطرح علماء التطور فكرة خطيرة عن نشأة الدم تميل إلى أنه قبل زمن طويل (مليارات السنيين) كنا جميعاً ديداناً تسبح في مياه البحار، نعم، حتى رؤساء الدول كانوا ديداناً، تعيش في مياه تلك البحار المفتوحة. لذلك يعتقد علماء التطور بأنه
“عندما كُنا ديداناً” تطور السائل في أجسامنا إلى دم معتمداً في الأساس على وجود

    مياه البحار، فالكائنات الحية مثل قنديل البحر وأشباهها يمكنها -حتى يومنا هذا-امتصاص الأكسجين والمغذيات التي تحتاجها من مياه البحار مباشرة، وبالتالي لاتحتاج إلى تطوير سائل لحمل تلك المواد عبر أجسامها. ومع تطور الكائنات الحيةالمعقدة ظهرت الحاجة إلى وجود سائل أكثر تخصصيَّة لنقل المغذيات، فكان الدم الحار في الثدييات والدم البارد في الزواحف.

    إنَّ دمنا المعقّد في بنيته أبعد ما يكون الآن عن مياه البحار، لكن البلازما التي تعمل كوسيط ناقل لا تزال تحتفظ بخصائصه الأساسيّة، ماء مع ملح مذاب. وتتولى كريات الدم الحمراء في أجسامنا مهمة نقل الأكسجين والتخلص من ثاني أكسيد الكربون، وتقوم كريات الدم البيضاء بمكافحة المرض بينما تقوم الصفائح الدموية بالمساعدة في إصلاح الأذى. ومن بين أهم مكونات الدم التي يجب تعويضها في الجرح النازف في أرض المعركة هي البلازما. وهي الناقل الحيوي لجميع الخلايا الدموية الأخرى. حيث يمكن للبشر أن يبقوا على قيد الحياة إذا فقدوا حتى 70 في المئة من خلاياهم الدمويّة بالحجم، لكن فقدان 30 في المئة فقط من الحجم الإجمالي للدم الذي تمثل منه البلازما الجزء الأكبر، سيؤدي للإصابة بصدمة غير مرتجعة irreversible shock وسبب ذلك أن الأوعية الدموية تحمل الدم تحت ضغط،
    ولذلك إذا نقص حجم الدم بصورة مفاجئة وكبيرة فإن تلك الأوعية تنهارcollapse مما يمنع جريان الدم إلى الأعضاء الحيويَّة في الجسم، ولذلك فإن السوائل الفعّالة التي تُستخدم لتعويض حجم الدم، مثل المحلول الملحيّ، ذات أهمية حيويّة. وأعود إلى البحار والديدان من جديد وأتساءل (بالسين والهمزة لا بالثاء والقاف): ألم يكن من الأفضل للبشرية لو بقيت ديداناً -دون دم- تعيش حرة سعيدة في البحارالمفتوحة؟

    مقالات ذات صلة

    اترك تعليقاً

    لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

    زر الذهاب إلى الأعلى