أحوال عربيةدراسات و تحقيقات

احياء الماضي التاريخي في السياسة

أحمد فاروق عباس

الماضى لا يموت ، وخصوصا في السياسة ، يبدو أنه يتوارى قليلا ، فى بطون الكتب أو في اجداث القبور أو فى أروقة المتاحف ، لكنه يبقى مؤثرا دوما في الطبقات العميقة للشعوب ، وإذا رأى فرصه مناسبة ، او وجد من يستغله خرج من بطون الكتب ومن اجداث القبور ومن أروقة المتاحف إلى دنيا الناس يحاول أن يعيد ما انقضى فى غير زمنه ، وفى المرة الأولى – كما قال الحكماء – قد يكون مناسباً ومتناسباً مع عصره ، أما فى المرة الثانية فهو أشبه بالملهاه أو المأساة ..

والأمثلة على ذلك كثيرة :

  • فقد استغل موسولينى زعيم إيطاليا في النصف الأول من القرن العشرين انتصارات ألمانيا في بداية الحرب العالمية الثانية وانضم إليها ، حاسباً أنها الفرصة المناسبة لإعادة مجد الإمبراطورية الرومانية القديمة ، ومعها مجد إيطاليا وريثة الإمبراطورية فى رأيه ، وعاصمتها الخالدة روما ، وكانت الإمبراطورية الرومانية قد انهارت منذ أكثر من ألف عام ، وأخذت ألف عام أخري قبلها وهى فى طور الذبول والانهيار ، وهو ما شرحه إدوارد جيبون باستفاضة في مؤلفه العظيم ” اضمحلال الإمبراطورية الرومانية وسقوطها ” لكن الوهم صور لموسولينى أن يعيد فى القرن العشرين حياة القرن الأول الميلادى وما قبله ، كأن مئات السنين وتطور الشعوب وتغير نمط الحياة كل ذلك بلا قيمة ، لكن المهم فى رأيه إعادة يوليوس قيصر واغسطس – بل ونيرون – إلى القرن العشرين بعد موتهم بألاف السنين ..
    كانت المحاولة مضحكة بالطبع ، وما بدء بمحاولة إعادة بعث مجد إيطاليا القديم واحتلالها لغيرها من البلاد إنتهى بوقوع إيطاليا نفسها تحت الاحتلال الأمريكى ، وإعدام موسولينى !!
    وكان هذا هو الدرس الأول لمن يحاول أن يعيد الماضى البعيد فى غير عصره ولا أوانه ..
  • وكانت المحاولة الثانية هى محاولة اليهود إعادة وجود محدود لهم فى فلسطين منذ أكثر من ٢٥٠٠ عام إلى الحياة مرة أخرى ، ولململة بناء دولة من اشتات لغة قديمة اندثر أغلبها ، ومن تراث دينى قديم ، أعيد تفسيره ليخدم الخطط السياسية الجديدة ، وكان حظ اليهود أن وقفت خلفهم القوى العظمى في كل عصر( بريطانيا فى القرن ١٩ وبدايات القرن العشرين ، وأمريكا منذ منتصف القرن العشرين وحتى الآن ) ..
    وبغض النظر عن القوة الإسرائيلية ومَن ورائها ، فوجود إسرائيل تاريخياً محسوم ، والقوة متغيرة ومعها يتغير أحوال البشر وأحوال الدول كبيرها وصغيرها ، والمغامرة الإسرائيلية مصيرها الزوال مهما طال الزمن ، ككل شئ قائم على أساس واه ٍ ، وبناء كله من الأساطير ..
  • كانت المحاولة الثالثة من شاه إيران في السبعينات من القرن العشرين ، عندما خطر على باله اعاده المجد القديم لامبراطورية الفرس ، وإذا به فجأة يتذكر ملوك فارس القديمة وحكمهم للبلاد البعيدة ، ويحاول أن يتشبه بهم ، وعندما تمادى فيما هو فيه ، كانت النتيجة أن استيقظ فجأة على صوت الناس الهائجة خارج قصره العظيم ، تطالبه بالذهاب والتنحى ، ويطالب بعضهم برأسه ، وكان أن هرب ذات ليلة من بدايات عام ١٩٧٩ إلي أمريكا ، وعندما رفضته ورفضه غيرها ، قبله السادات هنا فى مصر ، وبعد عام واحد مات ، ودفن بعيدا عن بلده وأرضه التى عاش ٣٧ حاكما بأمره فيها ..

لم يكن من خلَف الشاه فى إيران بأكثر ذكاء منه ، لقد حاول رجال الدين الذين جاءوا بعده نفس المحاولة ولكن بطريقة مختلفة ، حاولوا إعادة بعث مجد بلادهم القديم ، وسيطرتها على ما حولها من البلدان بسلاح الدين هذه المرة ، واحيوا من رقدة القرون نعرات طائفية ظن الناس أنها إنتهت ، وانحيازات مذهبية كان مكانها القرن الأول الهجري ، وعاد الناس مرة أخري إلى الصراع القديم بين على ومعاوية ، وبين الأمويين وشيعة على وأبناءه ، وكأن مئات السنين التى انقضت على ذالك التاريخ القديم هباء ، وسار وراء الشيوخ الايرانيين كثيرون من الشيعة العرب ، ومازلت فصول الملهاة مستمرة ، ولم يكتب الفصل الاخير فيها حتى الآن ..

  • وكانت المحاولة الخامسة ، هى محاولة الرئيس التركى الحالى أردوغان اعاده بعث امبراطورية أجداده الأتراك البائدة وحكمهم للعالم العربي بسلاح الدين أيضا ، كان العالم العربي قد استقل عن الأتراك وغيرهم ، وبنى دولا جديدة ، وسار في طريق التحديث كثيرا ، وإذا به فجأة يجد من يريد عودته مرة أخرى إلى حظيرة السلاطين الأتراك وحريمهم ، والانكشارية ( الجيش التركى ) والاغوات ، ودنيا الجهل والغطرسة التركية المعتادة ، ومازلت المحاولة مستمرة أيضا ، تحاول أن تلبس العصر الحديث لباس القرون الوسطى ، وتعيد في غير زمنها ولا عصرها امبرطوريات بادت ، ونظم حكم اكل الزمان عليها وشرب !!

ومن الحق أن يقال أن المحاولة الإيرانية لإعادة بعث مجد الإمبراطورية الفارسية بسلاح الدين والمذهب الشيعى ، وكذلك المحاولة التركية لإعادة بعث امبراطورية الأتراك بسلاح الدين أيضا وعودة الخلافة ، كانت كلتاهما صدى لمشاريع خارجية غربية( أمريكية بريطانية فى الأساس ) ترى الدين سلاح ممتاز ولا يجب تركه ، لإعادة تدوير المنطقة وارجاعها إلى النفوذ الغربى ، بعد وضع المظلة الإيرانية على نصفها والمظلة التركية على نصفها الآخر ، وبعد ارجاعها إلى أكثر نسخ الدين تعصبا وانغلاقاً بل وارهاباً ..

سيفهم الأتراك والايرانيون كما فهم غيرهم في الشرق والغرب أن إعادة بعث ماضيهم على حساب غيرهم مهمة مستحيلة ، وان إعادة إحياء العظام وهى رميم هى قدرة الخالق وحده ، وان ما يحاولون فعله مضر بهم قبل غيرهم ، فقديما قالوا .. من لا يتعلم من اخطاء التاريخ وخطاياه.. مكتوب عليه تكراره .

سينتهى ذلك كله فى وقت ما ، لكن ما سيستمر هو إستغلال البشر للتاريخ وللماضى في السياسة ، فهو معين لا ينضب لبائعي الأوهام للشعوب ، ولاصحاب المصالح وأصحاب النفوذ من الدول الكبرى ..
ومازلت الملهاة مستمرة ، ومازال المخدوعون لا يتعلمون ، ومازلت الشعوب هى من تدفع الثمن من حياتها ، ومن تطورها ، ومن أعصابها ..

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى