أخبار العالمأمن وإستراتيجيةفي الواجهة

إفريقيا ساحة صراع فرنسي روسي أمريكي صيني

إفريقيا ساحة صراع فرنسي روسي أمريكي صيني الطاهر المعز

بعد موجة الإستقلال الشّكلي للعديد من البلدان الإفريقية، بين سنتَيْ 1960 و 1962، ظلّت فرنسا تُهيمن على الحياة السياسية والإقتصادية والعسكرية والثقافية في ما لا يقل عن 19 دولة من مُستعمراتها الإفريقية التي تحولت من الإستعمار العَسْكَرِي المُباشر إلى الإستعمار غير المُباشر، وعملت الشركات الفرنسية، بدعم من الدّولة، على نهب الثروات الطبيعية واستنزاف ذوي المؤهلات من إفريقيا وبيع المنتجات المصنَّعة ذات القيمة المضافة العالية، ونفذت فرنسا أكثر من سبعين عملية عسكرية في إفريقيا، خلال خمسة عُقُود، وأطاحت بما لا يقل عن 22 رئيسًا، اغتالت العديد منهم، وفَرَضت اتفاقيات عسكرية واقتصادية وتجارية غير متكافئة، واستمرت الهيمنة على كافة القطاعات والمُستويات إلى أن ظهرت مُؤشّرات تراجع النفوذ الفرنسي في مستعمراتها السابقة قبلَ بضعة سنوات، عندما بدأت العديد من الدّول الإفريقية تُنَوّعُ علاقاتها، وتُرحّب بالإستثمارات الصينية، ما رسّخ النّفوذ الصّيني الذي بدأ منذ حوالي عقْدَيْن، بالتّوازي مع تنامي النّفوذ الرُّوسِي، ووقَّعت العديد من الدّول الإفريقية اتفاقيات دفاعية مع روسيا ( أو تركيا )، وعقدت روسيا اتفاقياتِ تعاونٍ أمنيٍّ مع 20 دولة إفريقية. أما الصين فقد استثمرت أكثر من أربعمائة مليار دولارا في إفريقيا، وبلغت استثماراتها 35 مليار دولارا، سنة 2018، وبلغ حجم التبادل التجاري بين الصين وقارة إفريقيا، سنة 2021، نحو 254,3 مليار دولارا، في حين انخفضت حصة قارّة إفريقيا من الحجم الإجمالي للتجارة الخارجية الفرنسية، من 35% سنة 1962 إلى حوالي 2,4% سنة 2018.
تأَكّد التّراجع لمّا اضطرّت فرنسا إلى سحْب قواتها العسكرية من مالي وبعض البلدان الإفريقية الأخرى، فيما تظاهر مواطنو “بوركينا فاسو” أمام سفارة فرنسا في “واغادُوغو”، وتعتزم السلطات العسكرية الجديدة إعادة النّظَر في علاقات التّبَعِية التي تربط بوركينا فاسو بفرنسا، القوة الإستعمارية السابقة التي تُهيْمن اقتصاديًّا، عبر شركاتها، ومالِيًّا، عبر الفرنك الإفريقي، وثقافيا، عبر اللُّغة الفرنسية التي تعتمدها 27 دولة كلغة رسمية، وبالمقابل فرضت دولة فرنسا شروطًا قاسية لمنح تأشيرات الدخول لأراضيها، ما خَفّضَ عدد الطّلبة الإفريقيين بالجامعات الفرنسية وعدد المِنَح الدّراسية، وأصبح من غير المُمكن لمواطني إفريقيا من شمال أو جنوب الصحراء الكبرى، زيارة فرنسا للسياحة أو لزيارة الأقارب أو للدّراسة أو للعمل، وأصبحت الهجرة النّظامية والإقامة في فرنسا أمرًا شبه مستحيل، ومع ذلك، تُريد فرنسا احتكار أسواق مستعمراتها السابقة في إفريقيا، وتعزيز مكانة شركاتها العابرة للقارات التي تنهب ثروات المغرب العربي ودول غربي إفريقيا، وتعزيز مكانة اللغة (ومن ورائها الثقافة) الفرنسية التي يتهدّدُها انتشار اللغة الإنغليزية، بالتوازي مع تعزيز التَغَلْغُل الأمريكي العسكري (بواسطة برنامج “أفريكوم”) والثقافي والإقتصادي الأمريكي.
أدركت حكومة فرنسا عُمْقَ هذه التّحَوُّلات عندما اعترض المتظاهرون، في تشرين الثاني/نوفمبر 2021، قافلة عسكرية فرنسية في بوركينا فاسو والنّيجر، وحَرَقَ المتظاهرون علم فرنسا، وتعرضت القافلة إلى هجوم بالأسلحة النّارية في مالي حيث تحتل القوات الفرنسية شمال البلاد، منذ 2012، بدعم عسكري أمريكي وألماني وبريطاني ودُول أوروبية أخرى، وبدعم مالي خليجي (السّعودية والإمارات)، بذريعة “محاربة الإرهاب”، وهي تِعِلّةٌ ترفضها السّلطات العسكرية الجديدة في مالي وبوركينا فاسو وغينيا، وترفضها الشّعوب لأن الجُنود المحلّيّين والمواطنين يُواجهون الإرهاب ويُضحُّون بحيواتهم يوميا، كما تَوسّعت الإحتجاجات ضد مواقف الحكومة الفرنسية من القضايا الدّولية لتشمل تشاد وجمهورية إفريقيا الوُسْطى وساحل العاج والمغرب العربي.
قد تُؤَدِّي خسارة فرنسا موقعها العسكري والإقتصادي والثقافي المهيمن في إفريقيا، وخصوصًا لو تم وضع حدّ لاعتماد “الفرنك الإفريقي” (أو اليورو الإفريقي، المُسمى “إيكو” حاليا)، واعتماد عُملة إفريقية مُستقلة، إلى نتائج اقتصادية سلبية لأن اعتماد 14 دولة إفريقية هذه العُملة مَكّن المصرف المركزي الفرنسي من السيطرة على 50% أو ما يعادل خمسمائة مليار دولارا من الإحتياطيات المالية لهذه الدّول التي يرتبط اقتصادها عضويا بالإقتصاد الفرنسي، وقد تستفيد الصّين وروسيا وتركيا والهند والكيان الصهيوني من الفراغ الذي قد تتركه فرنسا في بلدان مثل جمهورية إفريقيا الوسطى ومالي وبوركينا فاسو، وتحاول الولايات المتحدة، خصوصًا منذ 2007، تعزيز نفوذها في إفريقيا، ونجحت في تكثيف وتيرة التدريب العسكري مع العديد من الجُيُوش الإفريقية، وفي إقامة قواعد عسكرية بالمغرب والنيجر وجيبوتي، فضلاً عن القواعد القديمة في ليبيريا وسيرا ليوني وكينيا وغيرها. أما روسيا فقد وقّعت اتفاقيات تعاون مع عشرين دولة إفريقية، وتعزّزَ نفوذ الشركات الروسية في قطاع المعادن الإفريقية، على غرار مناجم الألماس والذهب وقطاع الطّاقة في ليبيا وأنغولا والكونغو وغينيا وموزمبيق وجنوب أفريقيا، وأصبحت شركة “فاغنر” الأمنية الرّوسية تُشرف على تدريب جُيُوش بُلدان العديد من المستعمرات الفرنسية السابقة.
تُواجه فرنسا رفْضًا شعبيا لسياساتها الإستعمارية وتدخّلاتها بأشْكالها المختلفة في إفريقيا، في تشاد ومالي وبوركينا فاسو، وأفريقيا الوسطى ودول المغرب العربي. وعلى مستوى الحكومات، تتطلَّع العديد من الدول الأفريقية التي وقَّعت اتفاقيات دفاعية مع فرنسا، كالكاميرون والنيجر ونيجيريا ومالي وموريتانيا، إلى توقيع اتفاقيات دفاعية مع روسيا، كما عزّزت الولايات المتحدة مواقعها، على حساب فرنسا، وأصبح المغرب منصّة للنفوذ الصهيوني والأمريكي، حيث ساءت العلاقات مع فرنسا، واغتنمت الولايات المتحدة الفرصة لتُحَوِّلَ المغرب تدريجيا، منذ بداية القرن الواحد والعشرين، إلى ساحة تدريبات ومناورات عسكرية أمريكية (وأطْلَسِيّة)، على غرار “مناورات الأسد الإفريقي”، بمشاركة الجيش الصهيوني (كضَيْف أو مُلاحظ) في حزيران 2022.
استفادت روسيا من تطوير علاقاتها بإفريقيا، حيث رفضت العديد من الدّول الإفريقية الإصطفاف وراء الموقف الأمريكي والأوروبي ورفضت إدانة روسيا في الأمم المتحدة، خلال شَهْرَيْ آذار/مارس ونيسان/ابريل 2022، بشأن الحرب في أوكرانيا، وجَسّدت زيارة وزير الخارجية الرّوسي “سيرغي لافروف” عددًا من البلدان الإفريقية، في تموز/يوليو 2022، هذه العلاقات المتطورة، خصوصًا مع مصر والحبشة وأوغندا والكونغو، وتُعتبر الحكومة الروسية نفسها وريثة العلاقات المتطورة بين حركات التّحرّر الإفريقية والإتحاد السُّوفييتي، ووريثة النضال ضد الإمبريالية والإستعمار والميز العنصري، وإن كانت سياسة روسيا الحالية بعيدة كل البُعد عن سياسات الإتحاد السوفييتي.
لا يُعْتَبَرُ استبدال هيمنة بأُخْرى حلاًّ يُساعد الشُّعُوب الإفريقية (أو غيرها) على التّحكّم بمواردها وبمصيرها، ويكمن الحل في الإعتماد على الذّات، وتطوير علاقات متكافئة بين الدّول…

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى