الصحافة الجديدةرأي

الحرب العالمية الجديدة

سعيد لحدو

بعد الحرب العالمية الأولى والثانية، ومن ثم الحرب الباردة في أقل من قرن من الزمان، والتي جرَّت الويلات على العالم، تأتي الآن حرب من نوع آخر وهي حرب الرسومات الكاريكاتورية. وأخص بذلك الرسومات التي تمس عقائد المسلمين ومقدساتهم، وما يستتبع نشرها من ردود أفعال عنيفة لن يكون آخرها قطع رأس أستاذ التاريخ صاموئيل باتي في إحدى ضواحي باريس قبل أيام. كما لم تنته المشكلة من قبل عندما نشرت المجلة الدانماركية يولاندس بوستن في سبتمبر 2005 رسومها. ثم تلتها صحف نرويجية وألمانية وفرنسية وغيرها وما تبع ذلك أيضاً من اضطرابات وأعمال عنف هنا وهناك.
ولعل أكثر ردود الفعل دموية كان ذلك الهجوم الإرهابي على الصحيفة الفرنسية شارلي أيبدو في مطلع عام 2015 وراح ضحيته 12 شخصاً، بعد نشرها رسوماً كاريكاتورية مماثلة.
المسألة في الأساس لا تتعلق بنوعية الرسومات أو ما تود أو يود رسامها التعبير عنه، وإنما بالطريقة التي ينظر فيها الإنسان أو المجتمع الذي ينتمي إليه، إلى أي حدث أو واقعة في الحياة مهما كانت نوعيتها. ومن الواضح أن هناك بون شاسع في طريقة النظر إلى الحياة في المجتمعات البشرية اليوم، وما يستتبع ذلك من فهم مغاير للواقعة ذاتها وبالتالي، ردود الفعل التي تصدر عن شخص أو مجتمع بعينه تجاه تلك الواقعة والتي لابد أن تكون مختلفة تماماً عن ردود فعل الآخرين، وقد تكون مفاجئة لهم وغير مفهومة، وربما صادمة أيضاً، كما في الحالات السابقة.
الغرب عموماً الذي اعتنق مبادئ الثورة الفرنسية التي قامت في 14 تموز عام 1789 والتي كان عمادها الحرية والديمقراطية وحقوق الإنسان، يقف مدافعاً عن تلك المبادئ والحقوق وفق الصيغ التي توصل إليها عبر تجارب وممارسات عملية عمرها 230 عاماً. وقد صقلها بكثير من المعارف الإنسانية التي حددت في النهاية نمط الحياة التي يعيشها الغربي اليوم برضى تام وقناعة راسخة. وقد سنَّت هذه الدول قوانين وضوابط ثابتة لا تسمح لأحد أياً كان تجاوزها. ولعل فصل الدين عن السياسة، وحيادية الدولة تجاه المعتقدات الدينية، أياً كانت تلك المعتقدات، مسألة لا تقبل النقاش. وتعتبر هذه المسألة العمود الفقري لمسألة الحرية الفردية، ومن أهم الأسس التي قامت عليها الدولة الغربية الحديثة. ولا شك أن هذا الأمر هو من أهم الأسباب التي ميزت مجتمعات هذه الدول بالاستقرار والازدهار والتقدم. وأن أية مشكلة تنشأ لا بد أن تجد حلها في القانون بدون أية ممارسة عنفية.
إلى جانب الغرب، اختارت كثير من دول الشرق ومناطق أخرى من العالم هذا النموذج بنسب تطبيقية متفاوتة. لكن المبدأ الأساسي بقي ذاته، وبقيت الحرية والديمقراطية وحقوق الإنسان وفق هذا المفهوم هو القاعدة التي ترتكز عليها الأنظمة السياسية في هذه البلدان.
في المقابل نجد مجموعة ليست قليلة من الدول التي غالبية شعوبها تؤمن بالإسلام ديناً لها، لها مفاهيم أخرى تجاه منطق الحريات التي تجري ممارستها في الدول الغربية عامة، وعلى مختلف المستويات: الفردية والمجتمعية والنظام الرسمي. وهكذا تنشأ فجوة بين المفهومين. وتزداد هذه الفجوة عمقاً واتساعاً عندما يتولى المتطرفون أو المتسلطون بالقوة إدارة الأزمة بالشكل الذي يفاقم الوضع أكثر وأكثر عوضاً عن التهدئته ومحاولة التوصل إلى مفاهيم مشتركة تجعل الأمور قابلة للسيطرة عليها عوضاً عن انفلاتها وفقدان التحكم بها. ولأن هذه المجتمعات الإسلامية محكومة غالباً من سلطات غير ديمقراطية وغير منتخبة، أو من ديمقراطيات شكلية مشوهة، تحاول كسب شعبية عبر تثوير الجماهير المتدينة عموماً من خلال إثارة العواطف الدينية الحساسة وتوجيهها نحو الغرب (المستعمر، المنحل أخلاقياً، المعادي للإسلام، المدبر للمؤامرات للمجتمعات الإسلامية لتبقى فقيرة وجاهلة ومتحاربة ومتأخرة عن الركب الحضاري). هذه التوصيفات التي يستعملها كل متطرف أومتسلط لتبرير الحالة المزرية التي تجد المجتمعات الإسلامية نفسها فيها، بتوجيه الاتهام للآخرين عوضاً عن الالتفات إلى داخل هذه المجتمعات والتمعن بالأسباب الحقيقية والموضوعية التي أدت بهذه المجتمعات للوضع الذي تجد نفسها اليوم فيه.
ومن أهم الوسائل الناجعة لتنفيذ هذه السياسة التحريضية هي استخدام ما يثير العواطف الدينية لدى عامة الناس ممن يثورون للدفاع عن دينهم ونبيهم بمجرد أن يُقال لهم بأن هذه الصورة فيها إساءة لهذا الدين أو النبي.
ولا ننسى الدور التحريضي الذي يقوم به الكثير من رجال الدين شبه الأميين. لكن تسميتهم بالشيخ تجعل منهم في نظر العامة من الناس الأقرب إلى الله ونبيه، وبالتالي تعتبر فتواهم شرعاً منزَّلاً يجب اتباعه وتنفيذه. وهم ، أي المشايخ، يرتقون بهذا الإجراء درجة أخرى من درجات الدين ليكونوا أقرب إلى الله ورسوله.
ومن الغريب أن هذه الإساءة لو كانت موجهة لله نفسه خالق الكون والديانات ورب الأنبياء والرسل، لما رأينا أي رد فعل من أولئك الذين يقولون بأنهم يسبحون الله ويعبدونه!!!! وما أكثر الإساءات التي حصلت لا بل رفض وجوده بالأساس من أناس من مختلف المستويات الثقافية والعلمية والسياسية في معظم المجتمعات وما زالت تجري كل يوم ولا أحد يكترث!!! ربما لأن الله يخص الناس أجمعين فلا تكترث تلك الجماهير الثائرة له. بينما يفجرون ويقتلون ويحرقون الأخضر واليابس لمجرد طبع رسم كاريكاتوري يسيء إلى نبيهم، وهو بلا شك مهما عظم شأنه وقدسيته، يظل أقل شأناً من الله خالقه.
عندما أصدر الخميني فتوى قتل سلمان رشدي بسبب روايته آيات شيطانية، لم يكن إلا القليلين جداً قد سمعوا به وبروايته تلك، ولم يكن يتجاوز عدد الذين قرأوها بضعة آلاف. لكن بعد الفتوى أعيدت طباعتها عدة مرات وصار قراؤها بالملايين…!!! فمن الذي تضرر من هكذا فتوى ياترى؟
كذلك عندما نشرت الصحيفة الدانماركية الرسومات الكاريكاتورية عن الرسول كان يمكن لبضعة عشرات الآلاف في أفضل الحالات أن يطلعوا عليها وهم فقط من قراء الصحيفة الذين يجيدون اللغة الدانماركية، وكانت ستمر كسحابة صيف مارقة. لكن التهويش الذي حصل حولها من أفغانستان وباكستان وإلى آخر ما عمر الله، جعل الملايين حول العالم يتشوقون للاطلاع عليها ونشرها. فمن الذي تضرر من هكذا سلوك ياترى؟
حادثة عرض الأستاذ الفرنسي الرسوم في الصف أمام خمسة وعشرين أو ثلاثين طالباً على أكبر تقدير… كانت أيضاً ستمضي كزوبعة في فنجان لو ترك الأمر لحاله. لكن حادثة القتل البشعة وفي وسط الشارع جعلت العالم كله يقف منذهلاً أمام هول التطرف الديني وخطره على مستقبل البشرية. فمن الذي تضرر من هكذا سلوك أيضاً؟
طرح أستاذ العلوم السياسية صامويل هنتجتون نظريتة “صراع الحضارات وإعادة تشكيل النظام العالمي”، في عام 1993 بعد انهيار الاتحاد السوفييتي، التي تقول أن مابعد الحرب الباردة لن تكون الصراعات بين الدول صراعات قومية، ولن تقوم خلافاتها على أسس سياسية أوإقتصادية، بل ستكون الاختلافات الثقافية المحرك الرئيسي للنزاعات بين البشر في السنين القادمة.
فوفقاً لهنتغتون، أن جوانب من الحضارة الغربية وجدت طريقها في حضارات أخرى ولكن قيم الديمقراطية وسيادة القانون والسوق الحر قد لا تبدو منطقية في عقلية المسلمين أو الأرثوذكس المتزمتين من اليهود أو المسيحيين. وسيؤدي ذلك لردود فعل سلبية في المستقبل.
أخطر هذه الردود هي التي نراها اليوم في الواقع المعاش بين الفينة والأخرى. وإذا كان المتزمتون اليهود أو المسيحيون قد اكتفوا بالشجب اللفظي أو اللامبالاة السلبية، فإن رد الفعل الإسلامي تميز بالعنف والتطرف الدموي في بعض الأحيان. وهذا العنف الدموي ما زال يلقى التبرير لدى معظم المسلمين والمؤسسات الإسلامية الرسمية عندما يُعتبر كرد فعل على فعل مرفوض ويمس المقدسات من وجهة نظرهم. وذلك دون الأخذ بالاعتبار المرتكزات التي يقوم عليها الفعل ورد الفعل اللذان يجب أن يتوافقا في النوع والمستوى والمرتكز القانوني الذي يستند إليه كل منهما.
هذا التوازن المنطقي والقانوني غير موجود في هذه المعادلة بين طرفين كلٌ له مرجعيته الخاصة ومفهومه المدعوم بمعتقدات لا يؤمن بها الطرف الآخر. لا بل قد يجدها متنافية تماماً مع معتقداته وقيمه ومساراته المجتمعية.
لذا، ومن هذا المنطلق، نرى أن هذه الأحداث ستتكرر مرة بعد أخرى على شكل حرب استنزاف طويلة المدى، لندخل مرحلة جديدة من حرب عالمية جديدة، شعارها ومادتها وسلاحها الأبرز “الرسومات الكاريكاتورية”.
نأمل قبل أن نصل إلى تلك الحرب الجديدة التي باتت نذرها بادية للعيان أن نشهد في المستقبل القريب نهضة للوعي الجمعي الإنساني والاهتمام الأبرز بما تعانية بعض المجتمعات البشرية من فاقة وفقر وتأخر على كل صعيد ومعالجة هذه الأزمات بجهود عالمية صادقة لكي لا نضطر لخسارة ما تبقى لنا من إنسانية.

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى