تعاليقرأي

التربية الراقية

التربية الراقية ذوق رفيع ولمسات أخلاقية عالية المستوى تتجاوز الأشكال المعتادة وتنحو منحى الأساليب الفذة التي تدخل القلوب بغير استئذان، هي أفضل ألف مرة من التلقين البارد والقوالب الجامدة، وهي تربية لا يقدر عليها إلا من أوتي حظا كبيرا من التوفيق ومن الفهم الدقيق والبصيرة الثاقبة والتجربة المحرقة.

فهذا السيد المسيح عليه السلام الذي جاء برسالة الجمال كان يمشي بين الناس الذين أرهقهم الأحبار بالقيود والآصار والأغلال – وهم ينْفِذون أمراضهم النفسية وليس شرع الله كما يزعمون – يغتنم أي فرصة ليلفت الأنظار إلى التفاتة طيبة ولمسة نفسية حانية، يعلم من خلالها أتباعه نهج المسامحة والرفق واللين ليبسط سلطان المحبة والرحمة والشفقة واليسر على قلوب أقستها الغلظة باسم الدين حين تم تحريف الكتاب السماوي من طرف رجال الدين الذين قطعوا صلتهم بالسماء واستثمروا في التوراة المحرفة – بل حرّفوها هم – من أجل مآرب دنيوية بحتة، يعظ بعبارات الحياءِ والأدبِ، ويقوم باختيارِ المعانِي السامقة والمفردات الرائقة، ويكسو كلامه حلّةَ الجمال البياني.

فقد ذكروا أنه مرّ – عليه السلام – هو والحواريون على جيفة كلب فقالوا: ما أنتن رائحته، فقال لهم: انظروا إلى بياض أسنانه…أراد من خلال ذلك نقلهم من الاستغراق في المنظر السيئ إلى إبصار ما هو جميل حتى لا يكون الهمّ التركيز على المساوي والتغافل عن المحاسن التي بجانبها كما هو شأن النفوس الغليظة الطبع…وهكذا تكون تنشئة النفوس الطيبة.

وكان يمشي مع الحواريين فاعترض طريقهم خنزير، ففسح له الطريق وقال له: مرّ بسلام، فقالوا له: تقول هذا لخنزير؟ فقال: لا أريد أن أعوّد لساني النطق بالسوء…أجل، هو يعلم أن التطبع يبدأ بالكلمة البسيطة سواء كانت حسنة أو سيئة، فإذا تساهل مع خنزير وأساء معه الكلام فسوف يصبح ذلك عادة عنده ، لذلك أغلق باب السوء والتزم الأدب.

وعندما جاءه “رجال الدين” اليهود الذين نصّبوا أنفسهم ناطقين باسم السماء كأنهم يحملون مفاتيح الجنة والنار بالمرأة التي زنت وطلبوا منه رجمها نظر إليهم فرأى أنهم لا ينتصرون لشرع الله وإنها قست قلوبهم وأصبحوا يتصرفون كأنهم أرباب، يحكمون على الغير ويسارعون إلى العنف مع أن قلوبهم مريضة وتديّنهم مغشوش، فقال لهم: من كان منكم بلا ذنب فلْيرجمها، فتراجعوا جميعا…هو لا يتنكر للشريعة وإنما ينقل الناس إلى روحها بعد أن انحرفوا بالاستغراق في رسومها حتى لم تعد ذات معنى.

وكان من أقواله عليه السلام: لا تنظروا إلى عيوب الناس كأنكم أرباب وانظروا إلى عيوبكم كأنكم عبيد، فالناس رجُلان: مبتلى ومعافى، فارحموا أهل البلاء واسألوا الله العافية.

لقد جاء المسيح عليه السلام لبني اسرائيل برسالة الجمال المؤسسة على المحبة والمسامحة والعفو، وكان موسى عليه السلام قد جاءهم برسالة الجلال حيث القصاص والمحاسبة الدقيقة، أما محمد صلى الله عليه وسلم فقد جاء للعالمين برسالة الكمال التي تجمع بين الجلال والجمال، لذلك جمع في سيرته العطرة أرقى انواع وأساليب التربية التي خرّجت جيلا فريدا تنتظم فيه الربانية والإنسانية، أقام حضارة الروح والمادة، والترغيب والترهيب، والجزاء والعفو…لكننا ضيعنا كثيرا من معالمها، ولو فهناها وأحييناها وتمثلناها في مناهجنا التربوية في البيت والمدرسة والمجتمع لبلغنا الرقي في أسمى معانيه وأبلغ صوره.

عبد العزيز كحيل

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى