أحوال عربيةأخبار

هانوي الفلسطينية

هانوي الفلسطينية

                                                      أسامة خليفة

                         باحث في المركز الفلسطيني للتوثيق والمعلومات «ملف»

تُبرز مقاربة التجارب النضالية التحررية للشعوب لطرد المحتل من أرض الوطن، نقاط تشابه ونقاط اختلاف في المقدمات و النتائج، إذ أن التشابه برز من خلال سعي حركات التحرر للاستفادة من تجارب شعوب أنجزت بنجاح مهمات مرحلة التحرر وحققت الاستقلال، هذا من ناحية، ومن الناحية الثانية كان التشابه نتيجة واقع وظروف متشابهة أوجدتها ممارسات القوى الاستعمارية بحق الشعوب المستعمَرة، فقد شهدت الجزائر حركة استيطان واسعة، وعملت فرنسا على التهجير والإبادة الجماعية في محاولة لتحقيق شعار «الجزائر فرنسية»، وهو أمر يشابه الحالة الفلسطينية في تهجير وإبادة الشعب الفلسطيني لإحلال شتات اليهود مكانهم وادعاء أن أرض فلسطين هي أرض اسرائيل.

ونقطة التشابه الرئيسية لحركات التحرر جميعها هي صمود الجبهة الداخلية أو الحاضنة الشعبية، وتبدو الحاضنة الشعبية الفلسطينية الأمتن والأكثر صلابة وصموداً بروح معنوية عالية دون توفر مقومات الصمود المادية والضرورية، التي تخفف من الفاتورة الباهظة التي تدفعها جماهير غزة في حروب إسرائيل الدموية والوحشية ضد المدنيين الآمنين، ولا يقتصر هذا على أحداث معركة طوفان الأقصى، بل كل المعارك التي سبقتها، حيث خاب ظن الفلسطينيين بالمجتمع الدولي والمنظمات الإنسانية في توفير مكان آمن للمدنيين في قطاع غزة، ويحميهم من القوة الغاشمة المفرطة في وحشيتها.

من تجارب الثورة الجزائرية ضد الاحتلال الفرنسي أنه في الوقت الذي نجح فيه الاستعمار الفرنسي في توجيه ضربة قاصمة لخلايا المقاومة في المدن، وأنه في الوقت الذي أعتقد فيه الاستعمار الفرنسي أنه قضى على آخر الفدائيين، وأنه فتح صفحة جديدة لا وجود للمقاومة فيها، اندفع آلاف الجزائريين يلوحون بعلم الاستقلال، في انتفاضة شعبية أذهلت باريس وجنرالاتها وأرعبتهم، مما دفع الجنرال ديغول للتفكير جدياً بالرحيل عن هذا البلد العربي وتركه لأهله، مؤكداً أن شعار «الجزائر فرنسية» كان مجرد كذبة، دحضها التاريخ كما دحضتها المقاومة وشعبها الصامد.

إن من واجبنا أن ندرس تجارب الشعوب، وأن نستفيد من دروسها، في ضوء واقعنا الملموس، ولعل أهمها التجربة النضالية الفيتنامية، فهي تجربة عظيمة ألهمت شعوب الأرض المحبة للسلام، تبدى ذلك في التظاهرات ضد الوحشية الأمريكية الاستعمارية والتي عمت العالم بما فيها الولايات المتحدة وطالبتها بإنهاء عدوانها وحربها الغاشمة، كما ألهمت حركات التحرر في العالم الثالث النموذج الثوري في النضال لأجل حريتها واستقلالها وسيادتها الوطنية، وبثت على الصعيد العالمي الروح الثورية بين الشعوب، وساعدت في تفجير ثورات جعلت منطقة جنوب شرق آسيا حالة ملتهبة.

بعد الانسحاب الإسرائيلي من غزة العام 2005، طرح بعض المنظرين شعار «تحويل قطاع غزة إلى هانوي فلسطين»، وكأن هذا الشعار يصلح لكل زمان ومكان، وليست له سياقاته السياسية والتاريخية الخاصة به، لم تكن هذه هي المرة الأولى الذي يطرح فيها هذا الشعار، فقد سبق لفصائل فلسطينية الحديث عن «هانوي فلسطين» في نهاية الستينات من القرن الماضي، بتحويل عمان -العاصمة الأردنية- إلى هانوي فلسطينية يكون دورها أن تبني القوى البشرية المسلحة لخوض حرب التحرير الشعبية وتحرير فلسطين، ودحر المشروع الصهيوني، وإلحاق الهزيمة بإسرائيل، وإقامة دولة فلسطين الديمقراطية، تم صياغة النظريات وإجراء الدراسات لتحويل هذا الشعار «هانوي الفلسطينية» إلى برنامج عمل للمقاومة.

لكن ما انتهت إليه مسيرة الوجود الفلسطيني المقاوم في الأردن في تموز/ يوليو1971، تكفي للدلالة على الكيفية التي جرى فيها رفع هذا الشعار، والكيفية التي جرى فيها التعامل معه، وقد بقي في جزء كبير منه مجرد شعار يدغدغ مشاعر المناضلين، دون القيام بالخطوات اللازمة لتحويله إلى خطوات عملية لتحرير فلسطين.

وعندما قدمت الجبهة الديمقراطية لتحرير فلسطين، للأطراف الفلسطينية المختلفة دعوتها لتبني «استراتيجية دفاعية لقطاع غزة» اعترض البعض ممن رأوا فيها دعوة لاستعادة مقولة «تحويل قطاع غزة إلى هانوي فلسطين»، وطرحت هذه الأطراف مجموعة من الأسئلة المهمة تعكس هموماً سياسية محقة، تستحق أن تكون موضوعاً للحوار والنقاش:

–       في حال الالتزام بالاستراتيجية الدفاعية فمن سيحرر فلسطين؟.

–       في ظل هدنة واستراتيجية دفاعية في قطاع غزة وغياب أي شكل من أشكال المقاومة في الضفة وبقية فلسطين، فما هو دور الأحزاب والفصائل الفلسطينية غير التسابق على منافع وامتيازات وسلطة تحت الاحتلال؟.

–       هل يمكن في ظل هكذا حالة تسمية هذه الفصائل أنها فصائل مقاومة أو حركة تحرر وطني؟. وهل يمكن المراهنة عليها لتحرير الضفة الغربية والقدس؟. ولا نريد القول لتحرير فلسطين؟؟.

من الممكن أن نطرح سؤالاً آخر بعد عملية «طوفان الأقصى» التي تدخل في التكتيك الهجومي باعتبار أن «الهجوم خير وسيلة للدفاع»، أليست «الاستراتيجية الدفاعية للقطاع» خطوة إلى الوراء؟. بعد أن ابتكرت الثورة الفلسطينية أساليب قتالية، وقامت بأعمال بطولية وقدمت تضحيات جسيمة، وشكلت مفخرة للشعب الفلسطيني، فدلت معركة طوفان الأقصى –تحديداً في ساعاتها الأولى- أنها نجحت في تعزيز التفكير الإبداعي والابتكاري وأتمت بإتقان عملياتي المهام المختلفة لها وأثارت الإعجاب والدهشة، والثورة الفلسطينية قادرة على الاستمرار في فكرها الإبداعي الثوري، والذي باستطاعته أن يحول الأمنيات إلى واقع، يرتبط بتحويل غزة إلى هانوي تنطلق منها الجحافل المسلحة نحو الضفة ونحو الساحل، كما انطلقت مجموعاته المسلحة نحو إطار غزة، إن الأيام المقبلة وما ستنتهي له الأوضاع الحالية في غزة والضفة ستحسم ما نوع وطبيعة الاستراتيجية المطلوبة بناء على ما هو قائم تستند على أسس موضوعية لواقع القطاع وأوضاعه، وواقع العدو ومخططه، والقراءة لنتائج المعركة الحالية وبعيداً عن الشعارات والخطب الرنانة، بكل الأحوال والظروف وما ستؤول إليه أوضاع غزة، لابد من استراتيجية عمل مقاوم. 

بمبادرة من الجناح العسكري للجبهة الديمقراطية لتحرير فلسطين تحولت الدعوة لـ«استراتيجية دفاعية لقطاع غزة» إلى موضوع للدراسة على جدول أعمال الفصائل الفلسطينية المسلحة، ولقيت ترحيباً واهتماماً، على أن توضع لها أسس وآليات تنفيذ، لكن هذه الآليات تحتاج إلى إرادة سياسية قوية، وإلى قدرة على إزالة العقبات، وخاصة أن الاستراتيجية الدفاعية تنطوي على دعوة إلى مغادرة آليات ومفاهيم وأساليب عمل وقيم لصالح آليات ومفاهيم وأساليب عمل وقيم بديلة، تنتقل من صيغة العمل المنفرد على مستوى الفصيل وصيغة التفرد بالقرار، ومن صيغة التشتت والتشرذم إلى صيغة العمل المشترك، والقرار المشترك والوحدة في الميدان، بكل ما في هذا من تخل عن مكاسب صغيرة لصالح المكسب الأكبر، المتمثل في توفير ما هو مطلوب لخوض المعارك دفاعاً عن القطاع بأقل الخسائر الممكنة في الصف الفلسطيني، مقابل إلحاق الخسائر الممكنة في الصف الإسرائيلي.

تتشابه الحالة الفيتنامية والحالة الفلسطينية في تعرضهما لحرب عدوانية شرسة من قبل الولايات المتحدة في فيتنام، ومن قبل إسرائيل في فلسطين، هاتان القوتان العدوانيتان امتازتا بالطبيعة الإجرامية، حين لجأتا إلى اتباع سياسة الأرض المحروقة، عبر الغارات الجوية والقصف المدفعي براً وبحراً أملاً بتدمير البنية التحتية، فدُمرت الطرق والمباني والمدارس والمشافي، باستخدام الأسلحة المحرمة دولياً، الولايات المتحدة استخدمت قنابل النابالم الحارقة والأسلحة الكيميائية، واستخدمت اسرائيل قنابل الفوسفور الأبيض، نجح المعتدون الأمريكيون في تدمير المرافق العامة، ونجح الفيتناميون والقيادة التي تدير شؤون البلاد في بناء البدائل تحت الأرض، كالمدارس والمستشفيات والجامعات وغيرها، واستطاعوا بناء مجتمع مقاوم، وانتظم ملايين الفيتناميين في جيش شعبي إلى جانب الجيش النظامي، يديرون عجلة الإنتاج، ويتأهبون للدفاع عن وطنهم، ففي الريف رُفع شعار «المنجل في يد والبندقية في اليد الأخرى»، وفي المدينة رفع شعار «يد للإنتاج ويد للدفاع عن البلاد»، مما عزز صمود شعب فيتنام وشد من عزيمته، وصلّب من إرادته، ورفع من سوية استعداده الكفاحي وقدرته على النضال والتضحيات.

وتستطيع غزة أن تصنع تجربة جديدة تفيض بتداعياتها على مجمل الحالة الفلسطينية، وأن تعكس نتائجها على الحالة في الضفة الغربية، وكان التطور في التنظيم والأداء سمة ملحوظة لازمت العمل المقاوم، منذ خروج الإسرائيلي من القطاع، حتى عملية طوفان الأقصى، من الانتشار على خطوط التماس إلى تطور القوة الصاروخية، إلى الإغارة البطولية على مواقع العدو، ولعل من الأهمية بمكان أن نستفيد من دروسنا بالتحليل واستخلاص العبر بعد كل موقعة وصيغة البرامج وتطبيقها وتوفير عناصرها اللازمة لها.

 المرجع:

–       «استراتيجية دفاعية للقطاع»، الكتاب رقم 30 من «سلسلة الطريق إلى الاستقلال» التي يصدرها «المركز الفلسطيني للتوثيق والمعلومات «ملف».

–       «ما بعد الجرف الصامد»، الكتاب رقم 26 من «سلسلة الطريق إلى الاستقلال» التي يصدرها «المركز الفلسطيني للتوثيق والمعلومات «ملف».

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى