رأي

أين نحن من ذاك الزّمن الجميل ا؟

رشيد مصباح (فوزي)

**

أحاول أن أكتب، أريد أن أفرغ ما في جوفي، لكنّني أجد صعوبة في ذلك.

لاشكّ في أن كل واحد منا لديه قصة أو ذكرى مؤلمة يريد أن يرويها لينفّس بها عن نفسه، و يفاجي بها على قلبه، لكنه لم يجد هذا القلب الذي قد يأتمنه على حكايته. وليس مخوّلا أو مؤهّلا كل من يظهر لك الاهتمام، بينما هو لاهٍ عنك وعن حكايتك، منشغل بأشياء أخرى، وأنت لاتستطيع أن تعلم ما في نفسه. فكيف يكون وقع ذلك على نفسك حين تعلم أنّه لم يكن مهتمّا بقصّتك منذ البداية؟

لاشكّ في أن ذلك سيولّد فيك خيبة وانكسارا، وسيكون بداية لفقدان الثّقة في الآخرين. مهما كانت درجة القرابة بينك وبينهم.

ولا شكّ في أن كل واحد منا لديه جراح ودمامل تنمّل عليه وتؤلمه، في عقله وفي قلبه، جراح بداخله وفي جوفه لم تبرَ ولا تريد أن تلتئم. تنمّل وهو صابر محتسب لايتزحزح ولايتزلزل، ولا يريد البوح أو الافصاح للغير عن ألمه. لأنّه لم يجد قلبا يسع حجم ومقدار معاناته، فهو لذلك يفضّل الصّمت على الكلام، والكتمان على البوح والإفصاح. وهذا لايعني أنّه لا يتألّم.

أريد أن أحكي لكم حكايتي: خرجتُ من رحم أمّي أحمل في ذراعي اليسرى حزازة، وسمعتهم يقولون عنّي “أصابته عين” وهذا بعدما كبرتُ طبعا وتعلّمتُ الكلام. بالمناسبة بحثتُ عن كلمة “حزازة” في معجم المعاني فوجدتها كأنّها توافق تماما ما سيحدث لي عند الكبر: ((اسم حزازة جمعها حزازات وتعني: وجع في القلب وحُرقة.)) اهـ.

ثم انتقل المرض من ذراعي إلى ساقي اليسرى، ليزداد حجم المعاناة ليضيق البيت ذرعا بالأسرة الصّغيرة. البيت التقليدي الذي وُلدتُ فيه، وعشتُ فيه أزيد من عقد، عرفتُ فيه معنى الألفة والمحبّة. لستُ أدري لماذا أروي هذا في هذا الفضاء الأزرق الذي ضاق ذرعا بالحكايات والقصص حتى لم يعد روّاده يحبّذون المكوث فيه طويلا لكثرة الأحاجي والقصص.: كل واحد يقول “أنا فولي طيّاب”. ربما أردتُ أن أقول لكم بأن المرحومة والدتي ـ طيّب الله ثراها ـ كانت حين تأتيني الحكّة ويقوى الألم تتألّم هي الأخرى معي ولا تنام ولا تعرف جفونها معنى النوم والنّعاس إلاّ قليلا.

كانت تعالجني ببعض الأعشاب الممزوجة بدموع العين، والآهات والحسرات التي تكاد تخنقها وهي تبكي وتتضرّع إلى المولى ـ عزّ وجل ـ كي يشفيني. ثمّ رقدتُ بعد ذلك في “سبيطار بنت القط” بمدينة سوق أهراس؛ ولستُ أدري من أين أتوا بهذا الاسم الذي لا يليق بالآدميّين، لكنّه “سبيطار” بالفعل، وللأمانة فهو مستشفى كبير، يليق بآدمية أمثالي، و بكل ما تحمله الكلمة من معنى. رقدتُ فالسبيطار وكان والدي يتعهّدني بالزيّارات إلى أن شُفيتُ. ولا تزال ذكرى يوم خروجي في مخيّلتي وأنا رفقة العزيز والدي نمشي في طريق ملتوٍ و معزول عن عمران المدينة .

هذا لأقول لكم أن أكبر خسارة في الدنيا هي خسارة الوالدين. الحياة من دونهما الإثنين لا لون ولاطعم ولا رائحة لها. والله جلّ وعلا سنّ سننا لا يمكن لحيّ تغييرها، أو العبث معها يعتبر ضربا من الخيال والضياع و الجنون. هو: ((الَّذِي خَلَقَ الْمَوْتَ وَالْحَيَاةَ لِيَبْلُوَكُمْ أَيُّكُمْ أَحْسَنُ عَمَلًا ))

لا أحد يستطيع استنقاذ ما كان قد سلبه منه الموت. كم من الوجوه التي عرفناها: كم من عزيز كم من قريب، كم من جار وكم من صديق… عرفنا في هذه الدنيا؟ لم يعد لهم وجود بيننا. منهم من جرى عليه القلم، ومنهم من رحل و ارتحل. اجلس وحدك وحاول أن تعيد شريط الذكريات أمامك وأوقفه عند أوّل صورة يتراءى لك فيها عزيز أو حبيب غاب عنك، و تعي ما أقول.

أعتقد أن الفراق هو أصعب شيء في هذه الحياة. وهو الشيء ربما الذي جعل الكثير ممّن يقرؤون القرآن يتأثّرون بقصّة سيدنا يوسف مع أبيه يعقوب ـ عليهما وعلى نبيّنا أفضل صلاة وأزكى سلام ـ.

ألم الفراق جذوة في القلب ونار في الكبد. أكثر ما يؤلمني هو الكبد؛ هذا العضو الكبير الذي يتألّم في صمت ولا يشتكي. لستُ أدري لماذا؟ لذلك اعتقد أن موتي سيكون حتما بسبب مرض في الكبد. وربما لأنه ليس لي قلب، كما أنه ليس لي رأس بمنى عقل أيضا؛ كما تقول عنّي حماتي ـ حفظها الله وأطال في عمرها ـ دائما، وهي صادقة في ذلك، ليس معناه أنني لا أملك هذه الكتلة الدّماغية؛ من مخ وجمجمة… هي سبب وجودي ووجود كل الخلائق في هذا العالم، فحتّى الحيوان لديه جمجمة. لكن هناك من يوفّقه الله فهو يستخدمها فيما يرضي الله و بطريقة مثلى، لا بالانغماس في اللذّات والإدمان على شرب أنواع الخمر والمهلوسات.. فالإنسان بذلك يعطّل هذه الكتلة الهلامية التي تسمّى العقل، ولا داعي لجلد الذّات فتلك ليست من تقاليدنا ولامن عقيدتنا نحن المسلمين.

تخيّلوا ماذا سمعتُ اليوم؟

أغنية: “يا عيني نوحي يا خلالة رنّي” ا؟

أغنية من التّراث المغاربي العريق. أعادت شريط الذّكريات إلى بداية السبعينيّات.

يا للأيّام؛

أين نحن من ذاك الزّمن الجميل ا؟

ليست أغنية جميلة وعذبة فحسب، وكلماتها التي تأخذ بتلابيب القلب، ولكن لأنّها تذكّرني بشخص عزيز كنتُ قد صبرتُ لفراقه سنوات عديدة، و تذكّرته الآن وتراءت لي صورته وهو يبتسم اا تسبقني العبرات ولا أستطيع أن أتمالك نفسي. لقد حباه الله بخصال وأشياء لا أجدها عند العموم. وكم كان أنيقا؛ يكفي أن تراه الأنثى فتعشقه للوهولة الأولى دون تردّد. الله يرحمك يا بابا العزيز. وتذكّرني الأغنية كذلك بالرّاقصة جارتنا، التي كانت تغنّيها فيسارع الحاضرون إلى إخراج ما في جيوبهم من أوراق نقدية ونقود، وتعلو الفرحة وتعلو والزّغاريد… ذاك هو زماني الذي عشتُ وترعرعتُ فيه، وليس هذا الذي يريد أن يخرج الناس من رحمة الله. وحتى الجو و المناخ ضاق بهم ولم يعد كما كان،

كل شيء تغيّر في هذا الزمان ولم يعد فيه ما يعجب سوى ذكر الله والصّلاة. و هذا لايعني أن الناس كلهم لديهم نفس الإحاسيس. فهناك من لديه رأي مخالف، وهذه سنّة الحياة. وأنا أؤمن بهذا، وأمّا غيري فربّما لا. لأن هناك من لا يعتقد سوى في نفسه، ولا يؤمن سوى بما تراه عيناه.

وفي هذا القدر كفاية

((ليس كل ما يُعْرَف يُقال، وليس كل ما يُقال حَضَرَ أهلُه، وليس كل ما حَضَرَ أهلُهُ حان وقته، وليس كل ما حان وقته صَحَّ قوله))

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

شاهد أيضاً
إغلاق
زر الذهاب إلى الأعلى