ثقافة

من اللغات القديمة إلى السَّـريانية

اسحق قومي
إهداء
إلى الحقيقةِ أينما وحيثما وجدتْ
وإلى الساعين لتحقيقِ الحقِ والعدلِ والخيرِ والجمالِ
إلى أبجديتنا الأولى وعشتارِ الفصولِ
إلى جدتي التي أنتظرُ عُرسَها ولو بعدَ مليونِ عام
إلى بلادِ الشمسِ وما بينَ النهرين
أقدمُ بحثي هذا.
إذا كانتِ الغايةُ من الكتابةِ مجردَ فنتازيا، فالأمرُ مختلفٌ عنهُ فيما إذا كانتْ همّاً وجسراً تعبرُ من عليهِ ملايينُ الأفكارِ التي تُشكلُ وزناً نوعياً لمادةٍ بحثيةٍ هي في غايةِ الأهميةِ بالنسبةِ أقلَ ما يمكنُ للشخصِ الكاتبِ نفسهِ لكونهُ لا يراها بعينٍ كما بقيةُ من مروا على تلكَ الفكرةِ نفسِها. وبعضُهم لم يكلفْ نفسَهُ أن يفكرَ بجديةٍ حولَ حقيقةِ أمرِ لغةٍ هامةٍ بالنسبةِ لهُ، ولمستقبلِ الأجيالِ التي تتحدثُ بها وتسمعُ عبرَها. مع العلمِ ما لهذا الأمرِ من مؤثراتٍ في الواقعِ الاجتماعيّ والذاكرةِ الجمعيةِ والتاريخيةِ والمستقبليةِ لأجيالٍ نثقُ أنها بحاجةٍ إلى من يُضيء لها الدروبَ. وإذا لم نضعْها أمامَ أبحاثٍ رصينةٍ في أمورٍ عديدةٍ فأعتقدُ أنها ستعيشُ أقسى رحلةٍ جماعيةٍ تشبهُ في الحقيقةِ ذاكَ التيهَ الذي عاشهُ موسى وشعبُ بني إسرائيلَ.
من هنا تكمنُ أهميةُ التفكيرِ في بحثٍ حولَ جوهرِ اللغةِ السريانيةِ أو الآراميةِ التي نتحدثُ بها لهجاتٍ شرقيةٍ وغربيةٍ، سوريةٍ وعراقيةٍ وطورعبدينيةٍ وفي معلولا وجبعدين. نكتبها بأبجديةٍ واحدةٍ وبخطوطٍ معينةٍ. أجل هي مبتدأُ تفكيرنا، وحقيقةُ واقعِنا، ومعبرةٌ عن أحلامِنا، سفينةٌ تجمعُنا مع لغاتٍ محليةٍ وعالميةٍ، وإنسانُها مفكرٌ وشاعرٌ وعبقريٌّ ومنهُ فلاحٌ مجدٌ ومزارعٌ حصدَ بيادرَ العمرِ ولم يكلّ. ومن خلالِ لهجاتِها نرى التباعدَ بينَ الإخوةِ وأولادِ العمومةِ. من هنا يتبينُ لنا خطورةُ الفكرةِ التي نُحاولُ البحثَ والنبشَ بها وعنها.
في الحقيقةِ كثيراً ما ترددتُ في أن أكتبَ في هذا البحثِ الشائكِ والمليء بالمتفجراتِ والقنابلِ الموقوتةِ وغيرِ الموقوتةِـ والأسلاكُ الشائكةُ التي أراها موجودةٌ على أرضِ الواقعِ.
وهناك جملةُ أسبابٍ تدفعني لهذا القولِ مع التأكيدِ أنّ جميعَ الآراءِ والأفكارِ التي طُرحتْ – من خلالِ محاضراتٍ وأبحاثٍ وربما كُتبٍ – حتى اليومَ حولَ اللغةِ السريانيةِ الآراميةِ الآشوريةِ كلِّها لا تؤسسُ لمدرسةٍ شاملةٍ جامعةٍ مانعةٍ تقتنعُ بها أغلبُ مكوّناتِ شعبنا.
ومن جملةِ الأسبابِ والدواعي التي كانتْ دافعاً لهذا البحثِ هو أنني وجدتُ أنّ اللغةَ السريانيةَ التي هي في حقيقتها آراميةٌ في أبجديتِها وتطورِها لدى أهلِها والناطقين بها. كانوا قد قَبِلوا بأن تُسمى السريانيةَ بحسبِ ما أطلقهُ عليهم وعلى لغتهم المحتلُ الإغريقي ذاتَ يومٍ ويعودُ الأمرُ إلى 312 قبلَ الميلادِ. وأما ما وجدتهُ لدى الشرقيين من أبناءِ شعبِنا فهذهِ اللغةُ متغربةٌ في الاسمِ والهويةِ عندهم. لا يعترفون بهويتِها ولا تسميتِها بل يُسمونها بلغةِ أجدادِهم الآشوريين الذين كانوا يتحدثون اللغةَ الأكاديةَ (لهجةَ آشورَ) قبلَ أكثرَ من ألفين وخمسمئةِ سنةٍـ. وهذا الخلافُ الكبيرُ بينَ أهلِها أبناءِ سوريةَ الكبرى وبلادِ ما بينَ النهرين وأخصُّ أرضَ آشورَ يتجذرُ بينَ العامةِ والخاصةِ، بينَ الكنائسِ بتسمياتِها الطائفيةِ وما بينَ الشعبِ، بينَ المثقفين أو مَن يدعون بالثقافةِ، وبينَ الباحثين.
أقولُ هذا من خلالِ خبرةٍ حقيقيةٍ عرفتها منذُ أن كنتُ في سوريةَ ولكنها ظهرتْ جليةً واضحةً لي عندما تمَّ قبولي كباحثٍ في المؤتمرِ العالمي الثاني للغةِ الآراميةِ السريانيةِ الذي دعتْ إليهِ جامعةُ القاهرةِ كليةُ الآدابِ عامَ 2016م. والدعوةُ كانتْ مقدمةً من عميدِ كليةِ الآدابِ الأستاذِ الدكتورِ معتز سيد عبدالله، ومع العلمِ أعرفُ منهجيتي في البحثِ عن الموضوعِ الذي تمَّ تعيينهُ ويخصني، وعليّ أن أبحثَ بهِ وهو الترجمةُ في العصرِ العباسي الثاني. ولأنني أريدُ أن أحيطَ بمعلوماتٍ واقعيةٍ من خلالِ أشخاصٍ وأكثرَ من فضاءِ الباحثِ ككلٍّ فقد ارتأيتُ أن أتواصلَ مع ثلةٍ ممَن أثقُ بأنهم أصحابُ خبرةٍ في شأنِ اللغةِ الآراميةِ السريانيةِ بلهجتيها الشرقيةِ والغربيةِ. ولكن في الحقيقةِ صُدمتُ من أحدهم وأيّ صدمةٍ على الرغمِ من الاحترامِ الذي يجمعُنا سويةً منذُ عشراتٍ من السنين. وصرخَ قائلاً ومنفعلاً عن أيّ لغةٍ تتحدثُ. أجل قلتُ لهُ عن اللغةِ التي هي آراميةٌ أو سريانيةٌ. فأقامَ الدنيا ولم يُقعدها. ومثلُ هذا النموذجِ هناكَ المئاتُ ممَن يدعون بالثقافةِ فهذهِ النماذجُ بالحقيقةِ لا يمكنُ إقناعُها، إلا إذا تمتْ دراساتٌ حقيقيةٌ ضمنَ مؤتمرٍ عامٍ وشاملٍ يسوي هذهِ المعضلةَ ليسَ في اسمِ اللغةِ وحقيقتِها بل في اسمٍ نطلقُهُ على شعبِنا ومن خلالِ هذا الهاجسِ كنتُ قد دعيتُ قبلَ أشهرٍ إلى مؤتمرٍ عامٍ هدفهُ التوصلُ إلى تسميةٍ موحدةٍ ولغةٍ واحدةٍ في اسمِها.
لهذا نرى أهميةَ الدوافعِ التي كانتْ سبباً في أن أُنجزَ هذا البحثَ، ولنا أن نتصورَ مدى الخلافاتِ إذا بقينا هكذا من دونِ حلٍّ للمعضلةِ. وأعتقدُ أنّ الجماعاتِ الحكيمةِ هي التي تُبادرُ لحلِّ مشاكلِها العالقةِ أفضلَ من أن تورثَ لأبنائها محطاتِ عِداءٍ وتفرقةٍ وتباعدٍ.
أما مَن سيتهمني ومنهم مَن سيُهاجمني، ومنهم مَن سيثيرُ الغبارَ عليّ. كلّ هؤلاءِ ومعهم بعضُ المتفلسفين ممَن يُجيدون لغتَنا (شرقيةً كانتْ أم غربيةً) فهؤلاءِ أعدُّهم أصحابَ عواطفَ غيرِ ناضجةٍ في حكمِهم عليّ بعدَ قراءتِهم لبحثِي هذا. ومهما كانَ لن يشكلوا عقبةً أمامَ الحقيقةِ الواقعيةِ والموضوعيةِ التي نُحيطُ بها حتى اليومَ بالنسبةِ لموضوعِ لغتِنا هل هي آشوريةٌ أم كلدانيةٌ أم سريانيةٌ أم آراميةٌ؟!!
فاللغةُ فيما توصلتُ إليهِ آراميةٌ، سريانيةٌ، آشوريةٌ وعلينا أن نتفهمَ أثرَ التاريخِ والجغرافيا والسياسةِ في هذهِ التسمياتِ كافةً. وأرى أن أرسخَ هنا فكرةً تقولُ: إنّ الدليلَ الماديّ على أيّ حضارةٍ يكمنُ في أبجديتِها عندَ هذا القومِ أو ذاكَ وما تُخلفهُ من آثارٍ وعمرانٍ وعلومٍ وثقافةٍ لا يمكن أن تُخفى عن أعينِ التاريخِ مهما حاولَ أعداؤها أن يُغيبوها ولو بأن يردموا عليها تُرابَ الدنيا فستظهرُ ذاتَ يومٍ.
كما نذكرُ بأنّ منهجيتَنا البحثيةَ تقومُ على أن شرعيةَ أيّ بحثٍ علميّ تأتي من خلالِ مراجعَ ومصادرَ مختلفةٍ، وهذا الأمرُ لا يختلفُ عليهِ اثنان. ولكن لنوضحَ نقاطاً مهمةً في موضوعِ المصادرِ التاريخيةِ التي نستمدُ منها مادةَ توثيقِنا فقد تكونُ على أنواعٍ مختلفةٍ فمنها أولاً:
آ- ما يُسمى بالمراجعِ: ونعني بها الكتبَ والأبحاثَ والأوابدَ الحضاريةَ ونتائجَ التنقيباتِ الأثريةِ وحتى ما يُنشرُ في اليوتوب أو من خلالِ محاضرةٍ متلفزةٍ وجميعُ ما يمكنُ أن نسميَهُ مادةً حسيةً أو بصريةً أو مسموعةً والتي تُقدمُ لنا مادةً علميةً لتشكيلِ بحثٍ علميّ.
ب- المصادرُ: ليسَ كلّ بحثٍّ يمكنُ أن تُستمدَ مادتُهُ العلميةُ من نتائجِ الدراساتِ التنقيبيةِ وقراءاتِ اللغاتِ القديمةِ وفكِّ أسرارِها وطلاسمِها. فهناكَ مواضيعُ تدخلُ في الجانبِ العلميّ من خلالِ عمليةِ التوثيقِ عندما يكونُ أكثرُ من شاهدِ عيّانٍ يُحيطون بمعرفةٍ تؤدي غرضاً توثيقياً سواءً أكانتْ تلكَ الجزئيةُ ظاهرةً طبيعيةً أو اجتماعيةً أو تاريخيةً أو تنقيبيةً أو عاداتٍ أو تقاليدَ أو تواريخَ شفهيةً فكلُّها تُشكلُ مادةً علميةً لبحثٍ رصينٍ وتتوقفُ علميتُهُ على المنهجِ الذي يتبعهُ الباحثُ. ففي حالةِ شهودِ العيّانِ إذا التقتْ أفكارُ أكثرَ من واحدٍ من الشهودٍ حولَ هذهِ الفكرةِ أو تلكَ فيكونُ التوثيقُ هنا في حدودِ العلميةِ والواقعيةِ، لأنّ هناكَ جوانبَ عديدةً تخصُّ التوثيقَ العلميّ ولكننا لسنا بحاجةٍ إلى علماءِ آثارٍ أو أكاديميين يُقدمون لنا خبراتِهم وأبحاثِهم لنعتمدَها. لهذا نقولُ لمَن يظنُّ أنّ أيّ بحثٍ علميّ يجبُ أن ينطلقَ من العلماءِ والباحثين، ومَن لهم معرفةٌ حقيقيةٌ باللغاتِ القديمةِ وغيرِ القديمةِ ـــ مع عدمِ نكرانِنا لأهميةِ تلكَ المعرفةِ ـــ لكونِها تزيدُ من مشروعيتِها وأهليتِها عندما يكونُ كاتبُها وموثقُها يعرفُ عدةَ لغاتٍ فهذهِ فضيلةٌ أجل.لكن ليسَ كلُّ الأمورِ التوثيقيةِ تُقاسُ بهذا المقياسِ فهناكَ مواضيعُ بحثيةٌ تُعدُّ بكراً لم يسبقْكَ إليها أيّ باحثٍ.لهذا عليكَ أن تفتشَ عنها بينَ عدةِ مراجعَ ومصادرَ.
ومن تلكَ المراجعِ والمصادرِ سيكونُ التوثيقُ الذي بدورهِ سيُشكلُ مادةً علميةً لغيركِ من باحثٍ.
في ختامِ هذهِ المقدمةِ أقولُ إنّ أهميةَ البحثِ الذي بينَ أيدينا هو محطةٌ لحلَّ خلافاتٍ تاريخيةٍ ووجدانيةٍ وقوميةٍ علينا أن نسعى إلى حلّها بشكلٍ علميٍّ وموضوعيٍّ معتمداً المناهجَ التاليةَ في دراستنا هذهِ، أولُ تلكَ المناهجِ هو المنهجُ التاريخيُّ والمنهجُ التحليليُّ الذي من خلالهِ نستخرجُ مادةَ بحثِنا، والمنهجُ الوصفيُّ، كما ورأيتُ أن أستخدمَ المنهجَ النقديَّ والمقارنَ في بعضِ الأماكنِ وليسَ بمنهجيةٍ هوجاءَ، بمنهجيةِ الحكماءِ والمثقفين والعارفين وليستْ تلكَ التي لدى العامةِ، وإن بقيتْ من دونِ حلٍّ فإنها ستتأزمُ وستضعُنا في مواقفَ لا نريدُها إنما هي الحقيقةُ.
تمهيد:
ولأنّ عنوانَ البحثِ يدورُ حولَ اللغاتِ القديمةِ إلى اللغةِ السريانيةِ فالبدايةُ ستكونُ من كلمةِ اللغةِ:
اللغةُ كما نعلمُ جميعاً هي وسيلةٌ للتعبيرِ عن مكنوناتِ العقلِ، والحاجةُ للتواصلِ، وبها نقيسُ مدى قدرةِ العقلِ على استهلاكِ العالمِ معرفياً، كما أنها كائنٌ اجتماعيّ عرقيّ بيئيٌّ ينمو ويتطورُ، وهي نظامٌ صوتيٌّ، لهُ دلالاتهُ، ورموزهُ، وتقنيتهُ، تنمو في محيطٍ اجتماعيّ وتكونُ أداةً للتفاهمِ والقدرةِ على الحكمِ والتحكمِ في سياقاتِ النشاطاتِ الإنسانيةِ المفيدةِ. وقد نشأتِ اللغةُ وتطوَّرتْ من خلالِ عمليةِ العملِ، وكما قيلَ لكلِّ قومٍ لغتهُ.
أمّا لغوياً فتعني: لغى ولغو والهاءُ عوضٌ، وجمعها لغى ولغاتٌ أيضاً، والنسبةُ إليها لغويٌّ، واللغا: الصوتُ، ويقالُ أيضاً لغى بهِ: أي لهجَ بهِ.
وهي الألسنُ، وهي فعلةٌ من لغوتُ: أي تكلمتُ، أصلُها لغوةٌ والجمعُ لغاتٌ ولغون. وقد أشارَ ابنُ خلدونَ إليها بأنَّها: (عبارةُ المتكلمِ عن مقصودةٍ، وتلكَ العبارةُ فعلٌ لسانيٌّ يشيءٌ عن القصدِ لإفادةِ الكلامِ، فلا بدَّ أن تصيرَ ملكةً متفردةً لها وهي اللسانُ. وهو لكلِّ أمةٍ حسبَ اصطلاحاتِها).
أما ابنُ سنانَ الخفاجي فيذكرُ أن اللغةَ هي: ” ما تواضعَ القومُ عليهِ من الكلامِ “.
واللغةُ هي أصواتٌ أو ملكاتٌ في اللسانِ. تختلفُ باختلافِ الأمةِ، وهذهِ الأصواتُ يستخدمُها كلُّ قومٍ للتعبيرِ عن أغراضِهم ومعانِيهم، وهي ليستْ مجردَ وسيلةٍ بحسبِ تعبيرِ (مالينوفسكي) بل هي وسيلةٌ لتنفيذِ الأعمالِ وقضاءِ حاجاتِ الإنسانِ، فالكلمةُ من وجهةِ نظرهِ إنما تستعملُ في أداءِ الأعمالِ وإنجازِها لا لوصفِ الأشياءِ أو ترجمةِ الأفكارِ.
وقلنا في موضعٍ آخرَ إنّ اللغةَ والفكرَ توءمان. وهي الوعاءُ الذي يحفظُ فكرَ الأمةِ وعواطفَها، وتاريخَها وأمجادَها.وعلينا أن نميزَ ما بينَ لغةٍ محكيةٍ بقيتْ حبيسةَ مجتمعِها ولجماعةٍ عرقيةٍ معينةٍ.مثالُنا هذا نجدهُ في القارةِ الإفريقيةِ حيثُ هناكَ لغاتٌ عدةٌ لا يفهمها سوى أهلِها.
بينما هناكَ لغاتٌ كانتْ عالميةً ذاتَ يومٍ وتُعدُّ في الوقتِ الحاضرِ من أهمِّ لغاتِ الشرقِ الأوسطِ وإنْ ليستْ رسميةً لكنها محوريةٌ في كثيرِ من القراءاتِ الروحيةِ والتاريخيةِ واللغويةِ.ولها أبجديةٌ واضحةُ المعالمِ منذُ ما يزيدُ على ثلاثةِ آلافِ عامٍ على أن نقرَّ بتطورِها من خلالِ احتكاكِها بالواقعِ الماديّ والاجتماعيّ والتطورِ التاريخيّ والسياسيّ للمنطقةِ برمتِها ولكنِها بالمحصلةِ أنتجتْ منظومةً حضاريةً (القراءةَ والكتابةَ) تتطورُ تبعاً لقدرةِ هذا المجتمعِ أو ذاكَ على استخدامِها كوسيلةٍ ليسَ للتفاهمِ وحسبِ بلْ لتكثيفِ الجانبِ المعرفيّ والأدبيّ والعلميّ أيضاً.
فالأبجديةُ اللغويةُ مرحلةٌ حضاريةٌ تدلُ على مدى التقدمِ العقليّ والاجتماعيّ لهذهِ الجماعةِ أو تلكَ.
وأمّا عن موضوعِ النشأةِ الأولى للغةِ الإنسانيةِ.فنحن أمامَ عدةِ آراءٍ تختلفُ فيما بينها. وليسَ هناكَ من رأيّ إلا ويختلفُ عن غيرهِ في هذا الجانبِ.إنما الزمنُ كفيلٌ بالكشفِ عن حقائقَ لنشأةِ اللغةِ الإنسانيةِ الأولى. وهذا لن يتمَّ إلا عندما نتوصلُ للكنوزِ التي تُخفِيها المدنُ الأولى.تلكَ التي غطاها الفيضانُ العامُ (الطوفانُ). فأرضُ العراقِ الجنوبي محطاتٌ لكشفِ وفكِّ أسرارِ نشأةِ اللغةِ الإنسانيةِ الأولى.
ولكنّ بعضَهم يعدُّ اللغةَ كانتْ منذُ أن وجدَ الإنسانُ وبهذا نرى أزليتَها وأنها هبةٌ خلقيةٌ وتتميزُ مع الإنسانِ فالحيواناتُ أيضاً لها لغاتٌ إنما الإنسانُ بحسبِ قدراتهِ العقليةِ، وتختلفُ لدى الأقوامِ البشريةِ حيثُ أنها تعبرُ عن مدى قدرةِ كلّ منهم على تفسيرِ الظواهرِ والعالمِ، وهذا ما سميناهُ استهلاكَ العالمِ، كما أنها تُعتبرُ عندَ علماءِ الأنثروبولوجيا إحدى المدارسِ السيكولوجيةِ للشعوبِ التي تتحدثُ بها. وهناكَ نظرياتٌ عدةٌ ومنها تلكَ التي ترى بأنّ اللغةَ اللغةُ كظاهرةٍ اجتماعيةٍ، ويعني هذا القولُ أنّها ضرورةُ وحاجةُ الإنسانِ إلى التفاهمِ مع أبناءِ جنسهِ. فمقتضياتُ الحياةِ الاجتماعيةِ تُفترضُ لغةً يتفاهمُ بها أبناءُ المجتمعِ. وفي ذلكَ تأكيدٌ على ما قالَهُ: دى سوسير (بأنّ اللغةَ أساساً ظاهرةٌ اجتماعيةٌ ينبغي دراستُها في ضوءِ علاقتِها بالمتحدثين بها ومشاعرِهم النفسيةِ، وأنّها دائرةٌ تشملُ المسموعَ والملفوظَ والمتصدرَ، وهي تحرّكُ قسماً نفسياً وآخرَ وظيفياً. تستمدُ قاعدتَها من ذاتِها، وجميعُ المؤثراتِ في اللغةِ ترجعُ إلى المجتمعِ والظواهرِ الاجتماعيةِ).
وهناكَ نظريةُ النظرياتِ العلميةِ لنشأةِ اللغةِ، ونظريةُ المحاكاةِ والتقليدِ، ونظريةُ (يوهي هو) التي تقولُ إنّ اللغةَ بدأتْ بمقاطعَ غيرَ مفهومةٍ وغيرَ مقصودةٍ، ولكنّها أصبحتْ فيما بعدُ مصطلحاتٍ، كما تعترضُنا نظريةُ (بوهووه) التي تقولُ إنّ الدوافعَ الغريزيةَ هي أساسُ اللغةِ ـ للتعبيرِ عن انفعالاتِنا.وهناكَ نظريةُ نشوءِ اللغةِ والتناسلِ.
هذهِ النظريةُ تقولُ لقدْ وجدتِ اللغةُ كاملةً ثمّ أعقبَ نشأتَها التوالدُ والتكاثرُ. ولهذهِ النظريةِ أربعةُ محاورَ. ونظرياتٌ فلسفيةٌ في نشأةِ اللغةِ. ونظريةُ الغريزةِ المتكاملةِ. ونجدُ مَن يرى بأنّ نشوءَ اللغةِ هو هبةٌ من اللهِ. وهناكَ تفسيراتٌ اجتماعيةٌ بعضُها يقولُ:إنّ اللغةَ دليلُ أصالةِ الإنسانِ وقدرتهِ الابتكاريةِ. والحقيقةُ لم نوردْ شرحاً عن كلّ نظرية لأننا نراها تختلفُ بحسبِ آراءِ مؤسسِيها وغايتُنا من إيرادِ عناوينَ تلكَ النظرياتِ لنرى كم هي تلكَ الآراءُ والعناوينُ حولَ نشأةِ اللغاتِ.
والحقيقةُ نحن لا نُريدُ تأسيسَ بحثٍ لغويٍّ عامٍ وشاملٍ لكلّ اللغاتِ العالميةِ قديمِها ووسيطِها وجديدِها. وإنما موضوعُنا هو تأسيسُ بحثٍ عن اللغةِ السريانيةِ التي تُشكلُ في حقيقةِ وجودِها الاجتماعيّ والتاريخيّ موضوعاً يستحقُ الوقوفَ عليهِ أقلُ ما يمكنُ من خلالِ هاجسِنا حولَ حلَّ إشكاليةِ التسميةِ بينَ أبناءِ شعبِنا، ولأنّ هناكَ عدةَ أسبابٍ جوهريةٍ أراها ذاتَ تأثيرٍ سلبيّ على وحدتِنا بينَ مكوّناتِنا الشرقيةِ والغربيةِ وبينَ مذاهبِنا الدينيةِ، وغايتُنا الوحيدةُ هي أن نتوصلَ إلى قاعدةٍ أساسيةٍ تقتنعُ بها كلُّ مكوّناتِ شعبِنا المناطقيةِ والطائفيةِ بتسميةٍ واحدةٍ. مع العلمِ أنّ اللغةَ التي يكتبون بها ويقرؤون هي الآراميةُ السريانيةُ.ولا نقولُ باللهجاتِ التي يتحدثون بها.
فمنهم من يُسمّيها بالآشوريةِ، وخاصةً أهلَنا الذين ينحدرون من شمالِ العراقِ. وبعضهم يقولُ إنها كلدانيةٌ. والقسمُ الآخرُ يقولُ إنها آراميةٌ. وهناكَ مَن يقولُ إنها فينيقيةٌ أو كنعانيةٌ. وضمنَ هذا الصراعِ الفكريّ، اللغويّ كيفَ نستطيعُ أن نؤسسَ قاعدةً تجمعُ هؤلاءِ على تسميةٍ واحدةٍ ؟!!
للإجابةِ عن هذا السؤالِ بعلميةٍ وواقعيةٍ وتاريخيةٍ وبحثيةٍ نقولُ:
لو ذهبْنا إلى متاحفِ العالمِ في برلينَ وباريسَ ولندنَ، ودخلْنا جناحَ الآشورياتِ وأردْنا أن نقرأ كلمةً واحدةً من تلكَ اللغةِ المكتوبةِ على مسلةِ حمورابي مثلاً، فأنا على يقينٍ بعدمِ قدرةِ أيّ من الموجودين أن يقرأ كلمةً واحدةً إلا مَن يعرفُ اللغةَ الأكاديةَ. تلكَ اللغةُ التي تفترقُ عن اللغةِ التي نكتبُ ونقرأ بها ويريدون أن نسمّيها باللغةِ الآشوريةِ.
ومن تجربةٍ حقيقيةٍ حدثتْ معي عندَما زرتُ متحفَ برلينَ وجناحَ الآشورياتِ في الربعِ الأولِ من تسعينياتِ القرنِ العشرين الماضي وبعدَ مسيرةٍ طالتَ حوالي سبعَ ساعاتٍ من خلالِ وسيلةِ النقلِ (الباص) حافلةٍ كبيرةٍ. كانَ من جملةِ الحضورِ أن حضرَ شابٌ يدرسُ يومَها اللغاتِ الشرقيةَ في الجامعةِ فقالَ: هذهِ اللغةُ الآشوريةُ وعندَما سمعتْهُ يتحدثُ مع أحدِهم تقدمتُ إليهِ وقلتُ لهُ: هل ما تقولهُ تقتنعُ بهِ؟!! قالَ: لم أفهمْكَ. قلتُ: هذهِ ليستِ اللغةَ الآشوريةَ بل هي اللغةُ الآشوريةُ الأكاديةُ التي كانَ أجدادُنا الآشوريون قبلَ أكثرَ من ألفين وخمسمئةِ سنةٍ بها يتحدثون. علينا أن نميزَ في حديثِنا بينَ اليومِ وقبلَ ألفي عامٍ. سكتَ ويبدو أنهُ لم يرقْ لهُ حضوري وبعدَها التزمتُ التجوالَ مع ولدي البكرِ وابنتي الذين كانوا يُشاركونني الرحلةَ.
لهذا أدعوكم للواقعيةِ والعلميةِ والموضوعيةِ. في أنّ كلّ ما نتداولهُ من مثاقفاتٍ لغويةٍ في هذا الجانبِ يعودُ أغلبُها إلى آراءٍ ظهرتْ منذُ مئةِ عامٍ خلتْ لكبارِ اللغويين، وعلماءُ الآثارِ اعتمدوا في آرائِهم على نتائجِ أبحاثٍ تنقيبيةٍ، ولكن هناكَ آراءٌ لكتّابٍ أو مَن يدعون بالثقافةِ نلحظُ في سياقِ كتاباتِهم التعصبَ الذي ولا يمتُ بصلةٍ للعلميةِ والواقعيةِ وحقيقةِ اللغةِ وتطورِها. وأعني أغلبُ آرائِنا تتلبسُها العاطفةُ لأننا نتمسكُ بتسميةٍ تُخالفُ في جوهرِها ما نحنُ عليهِ من لغةٍ.
ومع جلّ تقديري إذا ما أردنا أن نؤسسَ لبحثٍ في هذا الجانبِ وننتهي إلى قناعةٍ راسخةٍ تقومُ على العلمِ، وليسَ على العاطفةِ. علينا أن نجتهدَ في البحثِ عن حقيقةِ اللغةِ التي نتكاتبُ بها ولا ضيرَ إن أشركْنا في بحثِنا موضوعَ اللهجاتِ في هذا السياقِ. لكونِ اللغةِ المحكيةِ تختزنُ الكثيرَ من مفرداتٍ ومعانٍ للغاتِ التي سبقتِ اللغةَ التي نكتبُ بها اليومَ. وإذا كانتِ المفاهيمُ القوميةُ ترتكزُ على مقوماتٍ (ثقافيةٍ وجغرافيةٍ وتاريخيةٍ).
فالثقافةُ بشكلٍ عامٍ يدخلُ بها اللغةُ والعاداتُ والتقاليدُ والموروثُ الشعبيّ الذي استمرَ عبرَ أجيالٍ معَ هذا القومِ أو ذاكَ. وكما أنّ الهويةَ القوميةَ لأيّ أمةٍ أو شعبٍ هي الأرضُ (الجغرافيا). فـالهويةُ التاريخيةُ للشعبِ هو اسمهُ وهو الحكمُ الفيصلُ في هذا الموضوعِ مع ما سبقَ من مقوماتٍ.
كما وعلينا أن نميزَ ما بينَ الاسمِ والتسميةِ، فالاسمُ يكونُ مبتكراً ذاتياً متولداً من خلالِ أنساقٍ تاريخيةٍ للشعبِ وحركتِهِ عبرَ الزمنِ.أمّا التسميةُ قد تأتي من الآخرين وبحسبِ لغتِهم وعلينا أن نميزَ بينَ هويةِ الشعبِ وهويةِ اللغةِ. والسؤالُ الشرعيّ هنا حولَ اسمِ اللغةِ التي نكتبُ ونقرأ بها
هل نسمّيها باللغةِ الآراميةِ أو السريانيةِ أم الآشوريةِ أم الكلدانيةِ؟!!
فإذا كُنا نُنسبُ اللغةَ إلى قومٍ فالتسميةِ ستتغيرُ بحسبِ اسمِ القومِ.
أمّا إن نسبنا القومَ للغةِ فعندها أيضاً سيتمُّ تغييرٌ في المفاهيمِ السائدةِ.
ولأنّ دراستَنا هذهِ تعتمدُ العلميةَ والموضوعيةَ بحسبِ ما هو متوفرٌ لدينا من أفكارٍ وآراءٍ ولا ندعي بأننا نقفُ على الحقيقةِ كلِّها. إنما هو اجتهادٌ واستنتاجٌ واستقراءٌ من خلالِ مصادرَ مختلفةٍ توصلنا إلى هذا الرأي.
ونحنُ نسجلهُ في ذاكرتِنا الجمعيةِ في وقتٍ تزدادُ خلافاتُنا من خلالِ تسميةِ لغتِنا وتاريخِنا واسمِ قوميتِنا.
فالتسلسلُ المنطقيّ للأحداثِ التاريخيةِ وتاريخِ المنطقةِ بشكلّ عامٍ واللغويّ منه بشكلٍ خاصٍ بعيداً عن الآراءِ السياسيةِ والكنسيةِ والطائفيةِ والمثاقفاتِ المتداولةِ نقولُ:إنّ ما نسمِّيه وندعيهِ اليومَ بأنّ شعبَنا يعودُ في أصولهِ إلى أرومةٍ واحدةٍ هذا كلامٌ غيرُ علميّ ولا يقبلهُ الجاهلُ.
فشعبُنا في الحقيقةِ يعودُ في أصولهِ من خلالِ الجنسِ إلى شعبٍ آشوريّ وكلدانيّ في الشرقِ خالطتهُ شعوبٌ مختلفةٌ عبرَ مسيرتهِ آرية وغيرِ آريةٍ. كالعيلاميين والسومريين وكالفرسِ والميديين والأرمنِ والحثيين وغيرِهم، ولأنّ الإمبراطوريةَ الآشوريةَ ضمتْ تحتَ أجنحتِها أقواماً عرقيةً عديدةً لم تغادرْ أرضَها وأغلبُها ذابتْ في بوتقةِ هذا الشعبِ الآشوريّ العريقِ، كما ولدينا في الغربِ من بلادِ آشورَ وما بينَ النهرين الشعبُ الآراميّ، الفينيقيّ والعموريّ وهو الآخرُ تزاوجَ عبرَ التاريخِ معَ بعضِ مكوّناتهِ المحليةِ ومعَ اليونانِ والرومانِ والحثيين والهكسوسِ والكنعانيين والمؤآبيين والعبرانيين والعرِب والقائمةُ تطولُ هنا وهناكَ، وليسَ هناكَ من شعبٍ ويستطيعُ أن يدعي بصفاءِ عرقهِ خاصةً منطقةِ الشرقِ الأوسطِ. إنما الحقيقةُ هناكَ شعبٌ آشوريّ وهناكَ شعبٌ آراميّ (عرقياً).
ومن جهةٍ ثانيةٍ أرى أنهُ لا يمكنُ أن نبني آراءَنا ونُسجلُ ذاكرتَنا بناءً على ما أطلقهُ الغرباءُ علينا من اسمٍ تبنيناه جُزافاً لأسبابٍ مختلفةٍ كانتْ في حينها لها قوةُ التاريخِ فهذا منقصةٌ إذا لم نستيقظْ لشخصيتِنا الحقيقيةِ ونعتمدُ على جهودٍ بحثيةٍ يقدمُها لنا العلماءُ والمفكرون والمثقفون والمنقبون من أبناءِ شعبِنا. وجوهرُ ما نقصدهُ هنا هو حولَ الاسمِ الحقيقيّ لشعبِ بلادِ الشمسِ الذي هو آراميّ من خلالِ أرومتهِ العرقيةِ. دمشقيّ الجغرافيا وما جاورها مروراً بحمصَ وحماةَ والغابِ وإدلبَ وحلبَ حتى شمأل، ومعهُ أولادُ عمومتهِ على الساحلِ، من الفينيقيين الذين همْ بالأساسِ أولادُ عمومةِ الآراميين ومعهم في الجنوبِ الكنعانيون ومن الأنباط والعموريين. وعلينا أن نميزَ بينَ الفكرِ السياسيّ والأجندةِ السياسيةِ والحزبيةِ والحقائقِ العلميةِ والتاريخيةِ.
أقولُ هذا ليسَ من أجلِ التفرقةِ وإنما من أجلِ الحقيقةِ التي سايرَها أغلبُ العارفين منّا في هذا الجانبِ منساقين بالعواطفِ التي طالما دمرتْ إمبراطورياتٍ في العالمِ.
أعيدُ صياغةَ القولِ في موضوعِ اللغةِ وتسميتِها الحقيقيةِ.التي نكتبُ بها ولا أقصدُ اللهجاتِ التي يتحدثُ بها أهلُ آشورَ ولا أهلُ طور عبدين وغيرُهم. إن اللغةَ التي نكتبُ بها هي اللغةُ الآراميةُ مع أخذنا بأسبابِ تطورِها وتأثرِها بالطبيعتين الجغرافيةِ والبشريةِ السكانيةِ.ــ وإن سموها بالسريانيةِ نسبةً إلى الجنسِ وهذا منطقي أيضاً في علمِ القياسِ ــ لكنني أراهُ يُغبنُ الحقيقةَ العلميةَ والوجوديةَ لتسميتِنا التي جاءتْ من خلالِ ما أطلقهُ الإغريقُ على شعبِنا في بلادِ الشمسِ (سوريا).
ويمكنني القولَ هناكَ في المنطقِ والقياسِ وجهاتُ نظرٍ تُساعدُنا في التوصلِ لثوابتَ حولَ اسمِ لغتِنا ومثالُنا هنا.أولاً إنّ اللغةِ الإنكليزيةِ:
لم يتغيرِ اسمُها لا في الهندِ، ولا في أمريكا، ولا كندا ولا غيرِها من مكانٍ. وكلّنا يعلمُ أنها تعودُ بالأصلِ إلى أنها لغةٌ جرمانيةٌ كانَ قد جلبَها المستوطنون الأنكلوساكسون إلى إنكلترا (بريطانيا). وتأثرتْ بعدةِ لهجاتٍ منها اللهجةُ النورمانيةُ (الإنكليز والفرنسيين) كما وتأثرتْ بلغةِ النوارسِ القديمةِ من قبلِ الغزاةِ الفايكنك ومعَ أنها من أصولٍ جرمانيةٍ ونشأتْ في إنكلترا ومرتْ في مراحلَ (قديمةٍ ووسيطةٍ وحديثةٍ) وتأثرتْ بالمتغيراتِ إنما الشعوبُ التي تتحدثُ بها لا تُنسبُ لها، ولا هي تُنسبُ إليهم.
لهذا أرى أن نتبنى هذا القياسَ المهمَ أيضاً في موضوعِ تسميةِ لغتنا. وإذا ما تبنينا قياسَنا على اللغةِ الإنكليزيةِ لصحَّ قولُنا إنّ اللغةَ هي آراميةٌ نسبةَ إلى آرامَ بنِ سامٍ بنِ نوحٍ. وكلّ الشعوبِ التي تتحدثُ بها عليها أن تسمّيها بالآراميةِ كلغةٍ وافدةٍ إليها ماعدا الآراميين في ما سمّي فيما بعد بالسوريين.
فالاستنتاجُ والاستقراءُ الحقيقيّ يبدأ من هنا. فمن الطبيعيّ أنّ أهل آشورَ الذين كانوا قد غيّروا لغتَهم الكتابيةَ من اللغةِ الآشوريةِ (الأكاديةِ) إلى الآراميةِ وراحوا يتحدثون بالآراميةِ المحكيةِ وإن حملتْ معها ألفاظاً وكلماتٍ وجملاً أكاديةً وفارسيةً وفينيقيةً آنذاكَ. ولكن الأبجديةَ التي بها يكتبون ويقرؤون حتى اليومَ في كنائسِهم هي الآراميةُ التي سمّوها بالسريانيةِ. وأمّا بشأنِ كلمةِ سريانَ وسريانيّ وتعني آشورَ وآشوريّ فهناكَ عدةُ شواهدَ ومراجعَ نرى أنها تقولُ وما لفظةُ سريانَ إلا نحتٌ من الأصلِ (آسور)).فعندما نتوصلُ إلى أنّ كلمةَ سريانَ تعني آشورَ آسوريا أو أسوري نسبةً إلى شعبٍ أو قومٍ ولا تعني اللغةَ. فإننا بذلكَ ننتهي إلى أنّ السريانيّ يعني الآشوريّ وأنّ اللغةَ السريانيةَ تعني اللغةَ الآشوريةَ والعكسُ صحيحٌ.
وهذا ما ذهبَ إليهِ المفكرُ الفرنسيّ رينان.
وهناكَ رهطٌ من الباحثين يُجمعون على أنها تنسبُ في الأصلِ إلى آشورَ بنِ سامٍ بنِ نوحٍ. وعلى الأرجحِ أن الاسمِ تحرّف إلى سريانَ على أنهُ لفظٌ يونانيّ أطلقُ على شعوبِ المنطقةِ قبلَ الميلادِ ببضعةِ قرونٍ (تعريبُ آسورَ) السينُ والشينُ تتبادلان كما هو معلومٌ ومنهُ سميّتِ البلادُ المعروفةُ اليومَ بسوريةَ، وهناكَ آراءٌ تدعي بأنّ التسميةَ جاءتْ من باني مدينةِ أنطاكيةَ الملكُ سيروس.
أمّا المطرانُ يوحنا إبراهيم (الغائبُ الحاضرُ).حيثُ يدحضُ هذهِ المصادرَ بقولهِ: (إن أمةً عظيمةً كالأمةِ السريانيةِ لا يمكنُ أن تتركَ اسمَ لسانِها وتستبدلهُ باسمٍ آخرَ أعجميّ وضعتهُ أمةٌ غريبةٌ. وهنا يقدمُ دليلاً على أنّ جميعَ الأقوامِ السريانيةِ القديمةِ الذين ليسوا بآراميين يسمّون ذواتِهم منذُ القديمِ سريانيين مع العلمِ أن هذهِ التسميةَ ظهرتْ في عهدِ نبوخذ نصر. والنتيجةُ نقولُ إنّ السريانَ همْ أهلُ سوريا وبلادِ ما بينَ النهرين منذُ أقدمِ الأجيالِ). وهذا الرأيّ على الرغمِ من أنني أحترمهُ في بعضِ أجزائهِ إلاّ أنني لا أتبناهُ لكونهِ يعتمدُ على أنّ اللغةَ تُعطي اسمَها للشعبِ ويُسمى الشعبُ باسمِ لغتهِ. فقد اعتمدَ على أنّ اللغةَ الآراميةَ استطاعتْ أن تدحرَ اللغةَ الأكاديةَ بلهجتيها في آشورَ وبابلَ وحلتْ محلَها منذُ القرنِ السادسِ قبلَ الميلادِ فبهذا القولِ والاستنتاجِ نراهُ يؤكدُ رأيّاً يقولُ إنّ الشعبَ يتغيرُ اسمهُ بحسبِ اللغةِ وهذا ما لا أوافقهُ فيهِ وإلا لكانَ أهلُ أميركا أطلقوا على أنفسِهم الشعبَ الإنكليزيّ أو الشعوبَ الإنكليزيةَ.
وقبلَ أن ندخلَ إلى عالمِ اللغاتِ التي سادتِ الحضاراتِ القديمةَ أرى أن نعرجَ على ما جاءَ لدى الباحثِ الدكتورِ خزعل الماجدي بشأنِ الأقوامِ أولاً واللغاتِ ثانياً ولنا بعدَ ذلكَ رأيّ فيما نراهُ.
فقبلَ أن نطلعَ على محاضراتٍ للدكتورِ خزعل الماجدي حولَ الشعوبِ الساميةِ واللغاتِ التي تحدثتْ بها تلكَ الشعوبُ، وكيفَ تداخلتْ في التاريخِ والجغرافيا. كانتْ لنا قبلَ هذا عدةُ تحفظاتٍ حولَ العديدِ من الاجتهاداتِ مما يخصُّ الجنسَ واللغاتِ ونعني تلكَ التي تخصُّ الجانبَ العرقيَّ أو اللغويَّ لتلكَ الشعوبِ.
ورأينا أنّ كلّ ما قرأناهُ وسمعناهُ هو مجردُ اجتهاداتٍ ليسَ إلاّ وستبقى هذهِ الأبحاثُ غيرَ مكتملةٍ ومثبتةٍ نهائياً بل هي تشبهُ الرمالَ المتحركةَ في الصحراءِ.لأننا أمامَ مفاهيمَ متحركةٍ لهذهِ الأمورِ ولربما ظهرتْ فيما بعدُ آراءٌ من خلالِ الأبحاثِ والتنقيباتِ الجديدةِ التي تدحضُ جميعَ الأبحاثِ القديمةِ. لهذا لانجزمُ في رأينا ونتبناهُ على أساسِ نظريةٍ مكتملةٍ وكاملةٍ.
وأهمُّها ما يتعلقُ بالشعوبِ الساميةِ واللغاتِ الساميةِ. والنظرياتِ الغربيةِ التي تجاوزتِ العشرَ نظرياتٍ التي تخصُّ نشأةَ الشعوبِ الساميةِ. ومن الجديرِ ذكرهُ أن تلكَ النظرياتِ لا تثبتُ أمامَ الأبحاثِ العلميةِ التي تقومُ على الحفرياتِ وعلمِ الآثارِ أو على المقارناتِ اللغويةِ المكتوبةِ بل كانتْ اجتهاداتٍ واستنتاجاتٍ من خلالِ التاريخِ المكتوبِ عبرَ عدةِ مصادرَ أو قراءاتٍ خاصةً بعدَ جولاتٍ في الأماكنِ. ونرى أنها تحتوي على مغالطاتٍ تاريخيةٍ وجغرافيةٍ وبعضُها جاءتْ من خلالِ فكرٍ لا يقومُ على المنهجيةِ البحثيةِ المتسمةِ بالعلميةِ والموضوعيةِ. كما يوجدُ تخبطٌ وقعَ بهِ بعضُ هؤلاءِ العلماءِ من حيثُ التفسيرُ لنشأةِ تلكَ الشعوبِ. وبعدَ جهودٍ واضحةٍ تُحسبُ للدكتورِ خزعل الماجدي حيثُ ينقلُنا إلى ما يتبناهُ من أفكارٍ والتي يُسمّيها فرضيةَ سار Sar Hypothesis ويعتمدُ في تأسيسِها على علمِ الآثارِ والاستنتاجاتِ العقليةِ.
فيقومُ بتقسيمِ الشعوبِ الساميةِ إلى الساري (السارُ تعني السماءَ). والآري (آر تعني الأرضَ في اللغةِ السومريةِ).
وكما هو معروفٌ فقد تشكلتْ هذهِ الشعوبُ منذُ العصرِ الحجريّ، النحاسيّ في شمالِ الهلالِ الخصيبِ وتعودُ في ثقافتِها إلى:
1- ثقافةِ تلِ حلفٍ: التي تقعُ غربي رأسِ العينِ السوريةِ. وتُسمّى غويزانا (4900 إلى 4300 قبلَ الميلادِ).
2- ثقافةِ أريدو: (أبو شهرين في جنوبِ العراقِ) من 3400 إلى 4000 قبلَ الميلادِ.
3- ثقافةِ العُبيد: من 4000 إلى 3500 قبلَ الميلادِ. وبعضُهم يُعيدُ هذهِ الثقافةِ إلى ما قبلَ هذا التاريخِ حيثُ يقولُ إنهُ قبلَ العُبيدِ كانتْ تُسمّى بثقافةِ عويلي نسبةً إلى التلِّ الذي ظهرَ منذُ 6500 قبلَ الميلادِ واستمرَ إلى 5400 وفي زمنِ تلِّ عويلي يتمُّ اختراعُ العجلةِ الفخاريةِ وبدايةِ العصرِ النحاسيّ. ويقعُ هذا التلُّ غربي مدينةِ أريدو.
4- ثقافةِ الوركاءِ الأولى:وتبدأ من 3500 إلى 3100 قبلَ الميلادِ وأخيراً ثقافةُ جمدت نصر التي تبدأ من 3100قبلَ الميلادِ.
ونميزُ في موضوعِ الشعوبِ الساميةِ الأولى والأساسيةِ التسمياتِ التاليةَ:
1- الشعبَ السوباري (وهنا قرأتُ كتاباً لمكس فون أوبنهايم الرحالةِ وعالمِ الآثارِ والدبلوماسيّ الألماني الذي جاءَ إلى سورية، رأسِ العينِ وتلِّ حلف بالذاتِ وكتبَ جملةَ كُتبٍ من بينها كتابهُ الموسومُ بعنوانِ (حضارة تل حلف) يقولُ (إن الآشوريين همْ أحفادُ الشعبِ السوباري).وأرضُ الشعبِ السوباري هي أرضُ آشورَ ولكلمةِ سوبارتو علاقةٌ مع الشمسِ.
2- الشعبَ سونارتو (شنعار) شعبَ سهلِ شنعار في بلادِ ما بينَ النهرين.
3- الشعبَ سومارتو (الشعبَ الأموري أو العموري).
وهو أكبرُ الشعوبِ الساميةِ قاطبةً. وقد ظهرَ هذا الشعبُ في حوالي 4000سنةٍ قبلَ الميلادِ.
ويُقسمُ إلى شعوبٍ متعددةٍ أهمُّها:
آ- آرام: أي المرتفعُ أو الذين يعيشون في المرتفعاتِ. والآشوريون يقولون على مَن يسكنُ المرتفعاتِ آرا رمتا (أبناءُ المرتفعاتِ).
ب- كلدو. شعبُ السهولِ وهو أمورو أيضاً.
ت- عربُ الصحراءِ وهم بقايا الأموريين الذين ظلوا على ثقافتِهم الصحراويةِ. والحقيقةُ أساسُهم غربي الفراتِ والبلادِ الشاميةِ. وأقدمُ ظهورٍ لهم لا يتجاوزُ بينَ القرنين الثاني والسابعِ الميلاديّ. وهؤلاءِ العربُ لم يأتوا من الجزيرةِ العربيةِ بل ذهبَ قسمٌ منهم من بلادِ الشامِ والعراقِ للجزيرةِ العربيةِ فيما بعد. وينسبُ الدكتورُ خزعل الماجدي ممالكَ عديدةً للعربِ فيقولُ عن (الرّها والحضرِ وميسانَ والحيرةِ هذهِ يعتبرُها تعودُ إلى الممالكِ العربيةِ العراقيةِ بتعبيرهِ، وأمّا الممالكُ العربيةُ في الأراضي الشاميةِ فيقولُ (تدمرُ والرستنُ والغساسنةُ والجابيةُ والرصافةُ واليطرونُ في لبنانَ). وهنا أتحفظُ على أفكارهِ في هذا الجانبِ وبشدةٍ وخاصةً ما يخصُّ الرّها وتدمرَ واليطرونَ.
ث- اليمن في الجنوب.
اسحق قومي – ألمانيا

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى