تعاليقرأي

أغْوتْهم المادّة.. ولم يعد للإبتسامة من معنى عندهم.

رشيد مصباح (فوزي)

**

يقول المثل: “تسمع الحكمة من أفواه المجانين”؛

من الأمثلة والأقاويل التي قد تجد من يؤيّدها ومنها من لا تجد من يلتفت إليها أو يعيرها اهتمامه لأنّها ببساطة ليست منطقية أولا تمتّ بصلة إلى الواقع. وكيف لمن فقد بصيرته وعقله أن يدرك كنه الأشياء ويتفوّه بحكمة؟ا

وهناك من يبحث عن الحقيقة أينما وكيفما جاءت، ويستقي معلوماته من الواقع باختلاف أشكاله وأنماطه، باعتباره المنبع الرّئيس، ومصدر كل التجارب.

قال الأوائل: “اللّي ماهام ما عام، ما يعرف قدّاش من ليلة في العام”. ومعنى ذلك أن التجارب أهمّ ما في حياة الإنسان. وأن النّظريات وحدها لا تكفي ولا تفي بالغرض المطلوب، فلا بدّ من تنفيذها وتطبيقها في الميدان حتى تغدو تجارب. والعلم ليس بجمع الشهادات، ولا بمجرّد حضور الملتقيات وسماع الخطابات، وهوـ العلم ـ بلا عمل جنون. كما ورد ذلك في كلام بعض العارفين. فبالأمس لم يكن هناك مدارس نظامية، ولا لجان أكاديمية تمنح الشّهادات، ومع ذلك سطع نجم نوابغ مفكّرين في شتّى المجالات، وكان لهم دور كبير وأثر بليغ في بزوغ شمس الحضارات، ومنها الحضارة المعاصرة، والتي قد استمدّت بريقها من الحضارات القديمة، بما في ذلك الحضارة الإسلامية.

والثقافة ليست مجرّد شهادة ينالها الإنسان ببلوغه درجة من الدرجات العلمية والأكاديمية المعروفة، فهي كما عرّفها بعض الفلاسفة: “كل ما صنعه عقل الإنسان ويده من وسائل في الحياة، ومن الأشياء، والمظاهر فى بيئته الإجتماعية”؛ وحسب هذا التعريف فإن للثقافة علاقة وطيدة بسلوك الإنسان، فالإنسان ـ حسبهم ـ وحده هو من يصنع الحياة.

منذ أمد بعيد، ونحن نستخدم كلمات مبهمة، للتعبير عن مفاهيم وأمثلة غريبة، ترسّخت في أذهاننا، وأثّرت في وعينا، وباتت جزءا من تراثنا الفكري اللّغوي. نردّدها ـ بقصد أو بغير قصد ـ دون التحقّق من معانيها؛ ولكن الإنسان هو الذي صنعها، والتكرار هو الذي رسّخها وأعطاها هذه القوّة والدفع المعنوي. مثل: “الدنيا تبدّلتْ” وغيرها… من الأمثلة التي يقولها العوام دون التدقيق في مفهومها ومعانيها؛ إذ القصد من وراء ذلك هو أن الدّنيا برمّتها: (بما فيها من برّ وبحر، وكائنات ومكوّنات، ونظام حياة… الماء، والهواء، والحيوان، والنبات، والأشجار والغابات التي تحمينا من التلوّت وتعطينا الأكسجينات، والشمس والقمر وما ينتج عنهما من مدًّ وجزر، ونور وضياء…) لم تعد كما كانت من قبل؟ ولو تغيّرت بالفعل لما بقي هناك شيء اسمه الحياة.

وأمّا ظروف الإنسان؛ من صحّة ومرض، وفقر وغنى، وسعادة وفرح… فكل ذلك يتغيّر، بل ويتغيّر باستمرار. وهذه سنّة من سنن الحياة. فحينما تكون الأمور بخير نتفاءل ونردّد المثل: “الدنيا بخير”. وحين تسوء وتنقلّب الأحوال، نتشاءم ونتقلّب، ونهجو ذا الزمان، ولو نطق الزمان لهجانا؛ كما قال الإمام الشّافعي ــ رحمه الله ــ:

نَعيبُ زَمانَنا وَالعَيبُ فينا

وَما لِزَمانِنا عَيبٌ سِوانا

وَنَهجو ذا الزَمانِ بِغَيرِ ذَنبٍ

وَلَو نَطَقَ الزَمانُ لَنا هَجانا

والإنسان حينما يتعكّر مزاجه يسبّ الدّهر، وفي رواية للإمام أحمد، قال رسول الله عليه الصلاة والسلام: {لا تسبوا الدهر فإن الله عز وجل قال : أنا الدهر الأيام والليالي لي أجددها وأبليها وآتي بملوك بعد ملوك}.

يكاد الناس اليوم يجمعون على الاعتقاد أن الدّنيا، بكل ما جرى من معانيها البسيطة والمركّبة، هي السبب في كل ما يحصل للإنسان. وهم بذلك ــ من حيث يعلمون أو لايعلمون ــ ينكرون قدرة الإنسان ودوره في هذه الحياة الدنيا. فالإنسان هو من يصنع البسمة على وجوه المساكين. وهو الذي يحمي الغابة التي تعطينا الأكسجين، وهو الذي يغرس المشموم الذي ينسينا الهموم، وهو الذي يصنع الأفراح ليذهب الأحزان… وقد تموت هذه القيّم، فيتحوّل هذا الإنسان إلى آلة لجمع الأموال، و للقتل والدّمار. والإنسان “الإيجابي” وحده هو من يصنع البهجة، لنفسه ولغيره.

قال الرسول الأعظم الكريم: ((لا تَحْقِرَنَّ مِنَ المَعروفِ شيئًا، ولو أنْ تَلْقَى أخاكَ بوَجْهٍ طَلْقٍ)).

والناس اليوم أغْوتْهم المادّة فلم يعد للابتسامة من معنى عندهم، ولا للمشاعر النبيلة من قيمة تذكر. وصار كل شيء لديهم أغراض ومصالح.

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى