مجتمع

هل كان ظهور فيروس كورونا ضرورة بيولوجية ؟

جميل النجار
ونحن في أوج انتشار العدوى الوبائية التي حلت على الأرض في الآونة الأخيرة وفي الأول من يوليو الفائت 2020، بمجرد أن خرجت من بوابة المنطقة التي أقطن بها، وأثناء حديث عابر مع أحد رجال الأمن؛ لمحتُ مجموعة من الشباب اليافع ممن هم في عمر أولادنا يتصافحون ويتبادلون القُبل والمعانقة؛ دون أدنى محاذير تناولتها وسائل الإعلام مؤخراً؛ للتوعية ضد انتشار العدوى. فرحتُ أضحك بهستيريا بائسة على حالي البائس وأنا حبيس الجدران الخرسانية لأكثر من شهرين.
وبعد فترة تأمل؛ قررت القيام بإدارة خوفي؛ ووجدتني في الثاني من يوليو، أخرج – بلا كمامة وبلا قفازات- بحثاً عن “كورونا”. لا مست الشجر والسيارات وأعمدة الإنارة وسلمت على الجميع وتناولت قهوتي الصباحية على المقهى في كوبٍ من الزجاج وقمتُ بأشياء أخرى خِلسةً، مع علمي بمدى ضررها لجهازي التنفسي، دون أدنى محاذير وفركت يدي بشاربي وشممتها متعمدا ببطءٍ وتمعن. وآتاني النادل المتدين البسيط، والذي يحبني؛ لأنه لا يعرف توجهاتي العلمانية. وتحاور معي عن قرب وسعل في وجهي وهو يردد: “لا اله الا الله ولا حول ولا قوة الا بالله”.
وعدتُ ولم أضع أي معقِمات ولم أغسل يداي بالصابون.. ومرت الأيام ولم تظهر عليّ أية علامات؛ فاقتنعت بأن حتى “الفيروس” لا يرغب في أن يعرفني أو يتعرف عليّ!
صحيح أن مسلكي هذا بدا في ظاهره وكأنه محاولة انتحار، خاصة؛ وأنا العجوز صاحب الجينات الجنوبية الصعيدية الحارة التي جلبت عليه المواجع؛ أقلها القولون العصبي وضغط الدم. إلا أن المحاولة كانت اختبار حقيقي لإدارة الخوف في أوج أزمة وبائية مميتة. وقد اعتمدت هذه المحاولة في جوهرها على عدة معايير؛ كان من أهمها شحذ جهاز المناعة، ببعض العوامل الطبية المساعدة، أولاً، وقناعتي بأننا نحن البشر سيتعين علينا التكيف (الذي يعمل بموازاة الانتقاء الطبيعي) مع الوضع في ظل غياب الفاكسين اللازم لمقاومة الفيروس. سردتُ تجربتي هذي لكي نحاول أن نتغلب سوياً على مخاوفنا ونعزز من نظامنا المناعي؛ حتى يعمل جنبا إلى جنب آلية الانتقاء الطبيعي الذي ينشط في مثل هذه الظروف البيئية الوبائية.
فيبدو أن البشر سوف يضطرون إلى التعايش مع الفيروس التاجي المستجد لفترة طويلة، فمن المحتمل ان يصبح هذا الفيروس مجرد انفلونزا موسمية؛ تقتضي علاقة من التعايش الطويل لحين اكتشاف اللقاح المناسب وتطويره الذي يستغرق – في العادة- عدة سنوات. ويحق للناجين من وباء كورونا المستجد؛ أن يحكوا لذريتهم؛ بأنهم عايشوا وباءً لا يحل بالأرض إلا كل عدة قرون؛ فيصيح أولادهم: “تحيا جيناتنا”؛ فنحن “الناجون من كورونا”.
وهذا صحيح إلى حدٍ بعيد؛ فلم يهلك في موجة البلاء الآني سوى العجائز الضعاف وأصحاب الأمراض المزمنة ومن ضعفت مناعتهم لمرضٍ أو لخلل جيني؛ وكلهم ممن خضعوا لآلة الفرز الطبيعية المعروفة علمياً باصطلاح “الاصطفاء الطبيعي” أو البقاء للأصلح. فما هي حكاية هذا الاصطفاء من وجهة نظر العِلم؟
يصف الانتقاء الطبيعي العملية التي تصبح فيها السمات الحيوية المفيدة، والتي تسمح بالتكيف الأفضل داخل مجموعة الكائنات الحية، أكثر شيوعًا عبر الأجيال، وبالتالي تغيير التركيب الجيني لهذه الأنواع من الكائنات الحية. وهي (أي الانتقاء الطبيعي) عملية واضحة في البشر وكذلك في العديد من أنواع الحيوانات. وتعتمد عملية الانتقاء الطبيعي على عدة عوامل هي: أولاً؛ ضرورة الاختلاف داخل النوع الواحد. يجب أن يختلف الأفراد في المظهر أو السلوك. ويضاف إلى ذلك، تميزه ببعض السمات الأكثر فائدة من غيرها فيما يتعلق بالتكيف مع البيئة والسماح بمزيد من النجاح في الإنجاب والبقاء. وأخيرًا؛ يجب أن يرث النسل السمات المتغيرة. بحيث يبقى الأفراد ذوو السمات المفيدة على قيد الحياة وينقلون تلك السمات إلى نسلهم القادم. ستزداد هذه السمة بعد ذلك في التردد والتكرار، وتغير التركيب الجيني في الأجيال اللاحقة، على افتراض أنها تظل مفيدة.
والسمة الأخرى التي تعزز من عمل الاصطفاء هي القدرة على التكيف المادي والامتزاج مع المحيط: وهي الآلية التي تمر بها الأنواع لكي تعتاد على البيئة. فعلى مدى أجيال عديدة، من خلال عملية الانتقاء الطبيعي، تتكيف السمات الجسدية والسلوكية للكائنات الحية لتعمل بشكل أفضل في مواجهة التحديات البيئية. وفي العادة؛ تكون عمليات التكيف بطيئة وتدريجية، وتكون نتيجة التكيف الناجح مفيدة دائمًا للكائن الحي.
بخلاف الإنسان؛ قدمت ولازالت تقدم لنا أنواع الحيوانات الأخرى دليلاً على الانتقاء الطبيعي من خلال بعض التكيفات الفيزيائية. فعلى سبيل المثال؛ يوجد في إنجلترا نوعان من العصافير المرقطة، إحداها ذات لون فاتح والأخرى داكن. في أوائل القرن التاسع عشر، اختلطت ذات اللون الفاتح بشكل أفضل في محيطها، في حين باتت الأنواع الغامقة بارزة لمفترساتها على الأشجار فباتت فريسة مكشوفة لمفترساتها؛ وكانت تؤكل بسرعة أكبر. لذلك كانت العصافير ذوات الألوان الفاتحة شائعة جدا وكانت ذوات اللون الداكن نادرة لفترات طويلة. ومع ذلك؛ بعد توسع أنشطة التصنيع السريع، بدأ التلوث والسخام الناجم عن حرق الفحم في تغميق الأشجار؛ فامتزجت العصافير الداكنة بشكل أفضل في محيطها وأصبحت الآن الأوفر حظاً في البقاء على قيد الحياة. وبحلول العام 1895، كان 95 % من العصافير المرقطة ذات لون غامق.
ما لا يعلمه الكثيرين أن الانتقاء الطبيعي يعمل عادة ضد الكائن الحي. مما يقضي على الأفراد غير الملائمين للتكيف البيئي. على سبيل المثال؛ كثيرا ما تواجه مجموعة من حشرات الآفات مبيدات الآفات في بيئتها. بحيث تموت معظم الحشرات في الجيل الأول، ولكن إذا كان لدى عدد قليل من الأفراد طفرة جينية لمقاومة مبيدات الآفات، فإن هذه القلة ستبقى على قيد الحياة وتتكاثر. ومن المرجح أن يكون نسلها (بطفراته الجينية) أكثر مقاومة لمبيدات الآفات. في غضون بضعة أجيال، يكون المبيد أقل فعالية لأن معظم الأفراد يقاومونه.
شريطة ألا يرتقي إنتاجها من النسل إلى درجة الإفراط. فالإفراط في النسل في علم الأحياء له عواقب أكثر خطورة. فإذا كانت الكائنات الحية التي تعيش في منطقة ما تخلق نسلاً أكثر مما تستطيع البيئة استيعابه والحفاظ عليه، سيموت بعضها. فالإفراط في الإنتاج يعني في أحد جوانبه البيولوجية، أن لكل جيل ذرية أكثر مما يمكن أن تدعمه البيئة. لهذا السبب، تحدث المنافسة على الموارد المحدودة. الأفراد لديهم سمات تنتقل إلى الأبناء. تمنح بعض هذه السمات الأفراد ميزة عندما يتعلق الأمر بالبقاء على قيد الحياة للتكاثر. من المرجح أن تعيش الكائنات الحية التي تحمل هذه الصفات ولديها ذرية ترث الصفات المفيدة.
واصطلاح “البقاء للأصلح”. في هذا السياق، لا يعني بالضرورة الأكبر أو الأشرس أو الأذكى. لكنه يشير إلى الكائن الحي الأكثر ملاءمة للبقاء والتكاثر في بيئة معينة. على سبيل المثال؛ يمكن أن يكون بعض أفراد نوع معين ذا تباين في جزء معين من الجسم؛ مما يجعله أفضل في الحصول على الطعام. وعليه؛ فإن “البقاء للأصلح” لا يعني دائمًا المنافسة. بالنسبة لبعض الأنواع، يتم الحصول على البقاء والتكاثر بشكل أفضل من خلال التعاون.
ويعتقد العلماء أن الكائنات الغنية بوفرة الصحة والنابضة بالحياة يمكن أن تشير إلى جينات متفوقة. تكون لديها القدرة على التنافس الجيني، فتحظى بفرص أوفر للتكاثر. والقدرة على التكيف، على مدى أجيال من نوع ما، مع تلك السمات التي تساعد حيوانا ما على تناول الطعام والتزاوج بغزارة؛ تساعد على انتقال ذريته من جيل إلى جيل حتى تتغير الأنواع بأكملها لتكون أكثر ملاءمة لبيئتها.
فالناجون ينقلون الجينات إلى ذريتهم. وعلى مدى أجيال عديدة، تتراكم السمات التي تفضل البقاء. فسمكة الرئة القديمة، التي ظهرت منذ حوالي 417 مليون سنة، ووصلت ذروة تنوعها في العصر الديفوني المبكر، منذ أكثر من 410 مليون سنة؛ إذ بلغت أنواعها المائة نوعا. وكانت قادرة على النجاة من الجفاف بطرق لم تكن في مقدور الأسماك الأخرى. ربما كان لدى عدد قليل من الأسماك قدرة فائقة على تنفس الهواء السطحي في بركة ضحلة، وهي خاصية تم نقلها لأنها نجت وتتكاثر، مما أدى في النهاية إلى تكيف الرئتين.
وعندما تتراكم التكيفات المفيدة بمرور الوقت، يحدث التطور. التطور يعني التغيير في الأنواع بمرور الوقت. الفرق بين التكيفات الموروثة والتطور هو أنه عندما تصبح التكيفات المتراكمة عديدة لدرجة أن الحمض النووي للكائن الحي لم يعد متوافقاً مع نسخة أسلافه من الكائنات الحية؛ فإن معنى ذلك أن هذا الكائن الحي قابل للتطور إلى نوع جديد.
وقد اقترحت نظرية التكيف ثلاثة تغييرات عندما تتغير الموائل: تتبع الموائل أو التغيير الجيني أو الانقراض. عندما يكون النوع غير قادر على الحركة أو التغيير، فإن النتيجة هي موت الأنواع أو انقراضها. من بين الثلاثة، الأكثر قدرة على تغيير جيناته؛ هو الوحيد الأقدر على التكيف. ويحدث التغيير الجيني عندما يسمح الانتقاء الطبيعي للكائن الذي لديه طفرات طفيفة أن تكون له ميزة على بقية أفراد النوع؛ ما يمنحه أفضلية الوصول إلى الغذاء اللازم لاستمرار الحياة، والصحبة اللازمة للتكاثر؛ ومن ثم النجاة من أهوال التغيرات البيئية.
وفي الحالات التي يرتبط فيها نوعان أو أكثر ارتباطا تكافليا وثيقاً ببعضهما البعض من أجل البقاء؛ يجب أن تحدث تكيفات مشتركة. يقوم أحدهما بالتكيف. ويجب على النوع الآخر أن يحذو حذوها لمواصلة العلاقة التبادلية في المنفعة. وبالمثل، إذا مات أحد الأنواع، يمكن للأنواع الباقية أن تحاول التكيف بسرعة؛ وإلا ماتت هي الأخرى. ولكن على الأرجح ما تموت هي أيضا؛ بعد فقد شريكها. في بعض الأحيان يمكن أن تحدث التكيفات داخلياً ولا يمكن رؤيتها خارج الجسم. وتشمل ذلك الأنواع الأقدر على تطوير “نظام مناعي” أكثر شمولاً أو تحسن من وظائف المخ. كما يحدث الآن مع جنسنا البشري. ففيروس كورونا المستجد يقوم بعملية فرز معيارها الأساسي يعتمد على قدرتنا بتطوير “نظام مناعي” يتكيف مع الفيروس.
وعندنا في البيولوجيا التطورية أمثلة كثيرة على التكيف بأشكل شديدة التنوع والاختلاف؛ منها، على سبيل المثال؛ الأفاعي. فقبل أن تنزلق الثعابين وتزحف، كان لديها أطراف تشبه أطراف السحالي. حيث تمتلك الثعابين الحديثة، من الناحية الفسيولوجية، بذرة صغيرة حيث كانت أرجلها منذ ملايين السنين. وهي من الآثار الفسيولوجية المشابهة لعظمة ذنب الإنسان في أسفل العمود الفقري العصعص).
وللتكيف بشكل أفضل مع بيئتها المميزة بالثقوب الصغيرة في الأرض، فتحتم عليها أن تستغني عن أرجلها. فبدون أرجل، كانت الثعابين أقدر على التوفيق بين مساحة ضيقة يمكن أن تختبئ فيها، والهرب من الحيوانات المفترسة. كانت الأنواع الأولى من الثعابين موجودة في وقت لم تكن فيه معظم الزواحف تعيش فوق الأرض بحثاً عن فرائسها، ولكنها كانت تحفر بحثا عن الطعام.
كما أن الفئران التي لها آذان كبيرة جدا هي نتيجة للتكيف التطوري. فالفئران كائنات ليلية، مما يعني أنها تنشط بشكل أساسي في الليل، ولأنها لا تمتلك رؤية ليلية فعالة؛ تكيفت مع النشاط في الظلام من خلال تطوير قدرات سمعية لا تصدق. يمكن للفئران أن تسمع قدوم الحيوانات المفترسة في وقت أبكر مما تستطيع دون آذانها الكبيرة نسبيا. إلى جانب سرعتها، يمكن للفئران استخدام حواسها السمعية الشديدة للهروب من ثعبان أو طائر جارح قبل فوات الأوان. بالمقارنة مع آذان الفئران الصغيرة، والتي تسكن المناطق الحضرية بصحبة الإنسان؛ من السهل معرفة سبب كون أحد الحيوانات صغيرة الحجم من ذوات الآذان الكبيرة؛ تكيفت لتعيش في الغابات بسرعة وذكاء، في حين أن الآخر، من ذوات الآذان الصغيرة، هو ليس أكثر من مجرد زبال ثقيل يعتمد جزئياً على القمامة البشرية.
هذا ما يحدث في الانتقاء الطبيعي، ويحدد بقاء الأنواع وتكاثرها بتلك السمات في مملكة الحيوان باستثناء الإنسان. بينما يضع الانتقاء الاصطناعي البشر في وضع التحكم في اختيار السمات التي تظهر في الأجيال القادمة وأيها لا تظهر. في حين أن البشر قد يعززون أو يقمعون بشكل مصطنع الصفات الجينية للكائن الحي من خلال التربية الانتقائية لبعض الحيوانات الأليفة، فإن الطبيعة تهتم بالصفات التي تتيح مزايا لقدرة النوع على التزاوج والبقاء.
لقد جرب الناس كيف يمكنهم تربية الكائنات المدجنة بشكل انتقائي من أجل تعزيز الصفات المفيدة للبشر أو تلك التي تلبي رغبتهم ليس إلا، حتى لو لم تمنح هذه السمات نوعا ما ميزة التزاوج أو البقاء على قيد الحياة. ولكن للانتقاء الاصطناعي مخاطره؛ إذا ارتبط بزواج الأقارب؛ فيمكن أن يؤدي هذا في ظهور جينات خطيرة. ومن الأمثلة على ذلك زواج الأقارب الذي حدث خلال العصور القديمة ومؤخراً مع أفراد العائلة المالكة الأوروبية. للحفاظ على الدماء الملكية، غالبًا ما يُسمح للأقارب بالزواج وإنجاب الأطفال. العديد من هذه العائلات لديها أطفال يعانون من اضطرابات وراثية، مثل الهيموفيليا على سبيل المثال؛ وأولئك أكثر عرضة للموت أثناء ظهور الأوبئة.
خاصة عندما يكون عدد أفراد النوع صغيراً. ومثله في مملكة الحيوان ما حدث للفهود البرية، عندما تضاءلت أعدادها وانحصرت في جيوب جغرافية صغيرة. ما أدى إلى انخفاض مستويات التنوع الجيني. ويثير هذا قلق العلماء ودعاة الحفاظ على البيئة لأن الفهود قد تفتقر إلى التنوع اللازم للنجاة من تفشي الأمراض أو التغيرات البيئية السريعة.
وبعض التكيفات مفاجئة؛ فغالباً ما يظهر البشر بستة أصابع بشكل كافٍ (ويفترض بأن ذلك كان أكثر شيوعاً في مجموعات البشر الذين عاشوا في حقب ما قبل التاريخ). وهنا قد تكون الطفرة مفيدة أو ضارة أو محايدة. تنتقل الطفرات المفيدة من خلال الانتقاء الطبيعي. من المفترض أن الإصبع السادس أثبت أنه لا يقدم أي فائدة للبشر، لأنه يظل طفرة (انتقائية) وليست سمة (تكيفية).
من العرض السابق؛ يتضح لنا بأننا نحن البشر قد تجاوزنا – بعلمنا- كل خطوط الانتقاء الطبيعي ومعوقات البقاء، كسمات وآليات تطورية. لكن يظل انجابنا المفرط للذرية (الانفجار السكاني الذي طغى على قدرة الأرض الاستيعابية)، وتلاعبنا بالانتقاء الصناعي، وزواج الأقارب، وما يرتبط به من أمراض تقلل من فرص بقاء النسل؛ وأوضح المشاكل هنا أن محدودية النسل ترتبط بالشعوب المتقدمة كاليابان وأغلب دول الغرب الحضارية. بينما الانفجار السكاني يتركز في الشعوب المتخلفة؛ وهذا الوضع ينذر بكارثة على مستقبل تطور الجنس البشري عموماً. ويضاف إليها أن انتشار الأوبئة؛ يعمل باتجاه تعزيز آلية الانتقاء الطبيعي.
ورغم ذلك؛ لن تكون هذه آخر المشكلات؛ لماذا؟ لأننا مستمرون في إزالة الغابات، وصيد “لحوم الطرائد” للحيوانات البرية، ورعاية حيواناتنا الأليفة. وعليه؛ فلن يكون فيروس كورونا الجديد بالتأكيد آخر فيروس مميت من الحيوانات البرية يصيب البشر. في الواقع، الأنواع البرية من الخفافيش والرئيسيات التي نتبعها؛ ترتبط ارتباطاً وثيقًا بالسارس وفيروس نقص المناعة المكتسبة على التوالي. فعندما يتفاعل البشر مع أنواع الحيوانات البرية؛ يمكن أن تنتقل مسببات الأمراض الموجودة في تلك الحيوانات إلى البشر، وأحياناً يكون لها آثار مميتة.
وقبل أن ننظر على ظروف تكيفنا مع الأوبئة والفيروسات منها بشكل خاص؛ دعونا نتعرف، باختصار، على طبيعة عدونا اللدود وحجم قوته؛ حتى يتثنى لنا التعامل معه. فيروس كورونا كأي فيروس ليس بخلية، أي لا يتكون من الخلايا، ولا يمكنه أن يحافظ على نفسه في حالة مستقرة، ولا ينمو، ولا يمكنه صنع طاقته؛ إلا من خلال خلايا مضيفة. تمكنه من أن يتكاثر ويتكيف مع بيئته، من خلال التهرب من آليات الدفاع والاستيلاء على التمثيل الغذائي الخلوي لمصلحتها الخاصة. فهو، مع كل الفيروسات، مجرد روبوتات أكثر منها كائنات حية حقيقية. فإذا كان هذا الذي يشبه الروبوت قادرا على أن يتكيف؛ فهل سنعجز نحن البشر بما أوتينا من حيل البقاء الذكية على أن نتكيف مع هذا الروبوت شبه الميت؟ حتى وإن كان، من الناحية الإكلينيكية، من الصعب قتله ككائن ليس على قيد الحياة تماماً، أو كائن صفته الأساسية: نصف حي نصف ميت.
وتاريخياً؛ استطاعت أغلب الحيوانات المضيفة أن تصل إلى حالة “التعايش السلمي” مع فيروساتها، كما في حالة الخفافيش. ويعلم الجميع بأن إزالة الغابات أدت إلى تقريب الخفافيش من مساكن البشر؛ مما أدى إلى انتشار متكرر لوباء “الإيبولا” من الخفافيش إلى البشر في أفريقيا جنوب الصحراء الكبرى. وجلبت لنا التجارة في الحيوانات البرية السارس عندما أصابت الخفافيش “الزباد الأسير” بالفيروس في سوق للحيوانات الحية. وفي عام 2012، قفز فيروسي “ميرس وكورونا” إلى البشر من الإبل، التي أصيبت في الأصل من الخفافيش منذ عدة مئات من السنين.
والأخطر من ذلك، أن صيد الشمبانزي في الكاميرون تسبب في إصابة البشر بفيروس نقص المناعة البشرية منذ حوالي قرن، على الأرجح عن طريق حادث أثناء التعامل مع جثة مصابة. وفي الوقت الحالي، ينتقل فيروس كورونا الجديد بمعدل R0 حول 1.4-2.5؛ مما يعني أنه قد يستمر في الانتشار إلى أجل غير مسمى.
للمقارنة؛ فإن فيروسات الأنفلونزا الموسمية لها متوسط R0 يبلغ 1.28، وهو معدل يسمح لها بالانتشار كل عام في جميع أنحاء العالم. مع العِلم بأن الاختصار: R0 هو معلمة ديناميكية يمكن أن تتغير بسرعة. يمكن أن يتغير معدل الانتقال إلى أعلى نتيجة لتطور الفيروس والتكيف مع البشر، أو إلى الأسفل بسبب التغيرات في السلوك البشري والتكنولوجيا.
يمكن للبشر التقليل من انتقال العدوى الفيروسية ومكافحة آثار التطور الفيروسي من خلال بعض التغييرات السلوكية التي تقلل من مخاطر انتشار الفيروس. على سبيل التجربة، عندما ظهر السارس لأول مرة، انتشر بسرعة، مع ارتفاع R0، مما تسبب في النهاية في 8098 حالة و 774 حالة وفاة في جميع أنحاء العالم.
ومع ذلك، لم يكن لدى السارس الأشياء المناسبة للانتشار إلى أجل غير مسمى. فسرعان ما أصبح واضحا أن الأفراد المصابين لم يكونوا معديين إلا بعد ظهور الأعراض المبكرة مثل الصداع الشديد والألم العضلي. وبالتالي؛ يمكن للأشخاص المصابين تشخيص أنفسهم بسهولة ودخول المستشفى قبل نقل العدوى لأي شخص. وعليه؛ انخفض معدل R0 إلى أقل من 1 واحد صحيح، مما كفل الاستئصال.
ومثل السارس، يعتبر الإيبولا مميتا ومعدٍ بشكل رهيب، كما أنه لا يحتوي على المواد المناسبة للاستمرار لدى البشر. ينتشر الإيبولا من خلال التعرض للسوائل الجسدية لفرد مصاب، ولكن لا يمكن أن ينتشر عن بعد عن طريق العطس أو السعال. وقد ساهمت تقاليد الدفن، غير الواعية، لدى سكان غرب إفريقيا بشكل كبير في الانتشار المبكر والسريع للفيروس، حيث تعامل أفراد الأسرة مباشرة مع جثة المتوفى. وعندما بدأ الناس في تجنب الاتصال بالسوائل الجسدية للمصابين، سواء أكانوا أحياء أم متوفين، انخفض معدل انتقال الإيبولا من خلال التغييرات في السلوك وحده.
حتى الآن؛ يبدو أن العلماء والعاملين في مجال الرعاية الصحية قد لا يكونوا محظوظين جداً في احتواء فيروس كورونا الجديد؛ لأنه قابل للانتقال حتى قبل ظهور الأعراض. ومع ذلك، سيتم تقليل انتقال العدوى بالتأكيد إذا اتبعنا بروتوكولات مألوفة للوقاية من عدوى البرد والإنفلونزا، مثل الحجر الصحي وغسل اليدين وتجنب جراثيم الآخرين بشكل عام.
ومن الناحية النظرية؛ يجب أن يعلم الجميع بأن “كل شيء في الأسواق ومتاجر البقالة وحاويات وأكياس الوجبات الجاهزة في المطاعم وغيرها يمكن أن يحتوي على فيروسات وميكروبات معدية”. وقد أكدت أحدث الدراسات على أن الفيروس يتشبث بالسطوح، مثل السترة أو الطاولات، لمدة تصل إلى تسعة أيام في درجة حرارة الغرفة. كما وأكدت على أن هذا الفيروس يمكن أن يظل معلقًا لمدة نصف ساعة تقريبًا، قبل أن ينجرف ويستقر على الأسطح.
ومن المتوقع “أن تنخفض شدة العدوى بمرور الوقت حيث يتكيف الفيروس مع البشر الذين سيكتسبون المناعة الطبيعية مع الوقت.
وعليه؛ سيتعين علينا جميعا أن نتخلى عن بعض عاداتنا وسلوكياتنا السلبية السابقة وإعادة تنظيم سلوكنا البشري؛ ونتقيد بإجراءات الوقاية التي تعلمناها والتزمنا بها طوال فترة الحجر الصحي التي ستُرفع أجلا أو عاجلا. ولكن مع العودة إلى الحياة الطبيعية، يجب توخي الحذر في تعاملاتنا وسلوكياتنا في الفترة القادمة؛ لأننا نحن البشر قد تعلمنا من تاريخنا مع الأوبئة؛ “بأن غياب الحذر وقت تفشيها؛ يمكن أن يعيد إشعالها من جديد بسهولة”. لذا؛ ننصح بالتالي:
• نظف يديك بانتظام وبشكل كامل باستخدام فرك اليدين التي تحتوي على الكحول أو اغسلهما بالماء والصابون.
• استخدم معقم اليدين الكحولي، مع ضع كمية بحجم العملة المعدنية على يديك. وتجنب لمس عينيك وفمك وأنفك مباشرة بعد استخدام مطهر اليدين الذي يحتوي على الكحول لأنه قد يسبب تهيجا غير مستحب.
• استخدم الكمامة والقفازات عند الخروج إلى الأماكن العامة، وعند ركوب المواصلات العامة، وعند الخروج للتبضع والتسوق أو إذا كنت تعمل في أعمال تقتضي التجمعات. ويمكن أن تستخدم منديلا – في حالة عدم توفر القفاز- عند فتحك لصنبور مياه في الأماكن العامة أو لفه حول مقابض الأبواب.
• لا تضع هاتفك على سطح مشترك (كمنضدة عامة) ومع اضطرارك يجب عليك تعقيم جهازك بعناية.
• حافظ على مسافة لا تقل عن متر واحد أو مترين بينك وبين الآخرين. فالمسافة، ثم المسافة، ثم المسافة.
• تجنب عادة ملامسة العينين والأنف والفم من وقتٍ لآخر.
• تأكد من أنك، والأشخاص من حولك، يتبعون النظافة الشخصية والتنفسية الجيدة. وهذا يعني تغطية فمك وأنفك بكوعك أو منديلك عند السعال أو العطس. ثم تخلص من المناديل المستخدمة على الفور واغسل يديك.
• داوم على التنظيف الشامل لكل الأماكن والأسطح التي نتعامل معها بالصابون والماء الجيد؛ الأمر الكفيل بالقضاء على بنية الفيروس، ولكن إذا لم تكن متأكدًا من كيفية تطهير عنصر ما، مثل السترة أو زوج من الأحذية، فضعه جانبا لثلاثة أو أربعة أسابيع دون أي استعمال كخيار آخر.
• ابق في المنزل واعزل نفسك إذا شعرت بوجود أعراض بسيطة مثل السعال والصداع والحمى الخفيفة حتى تتعافى.
• ابق على اطلاع على أحدث المعلومات العلمية لا العقائدية من مصادر موثوقة، مثل منظمة الصحة العالمية أو السلطات الصحية المحلية والوطنية.
ما بعد التعديل السلوكي
قد توفر التكنولوجيا الطبية حلولاً للمضي قدماً في تعزيز السيطرة والتحكم على/في الوباء. ومن الجهود الواعدة “مجموعة أدوات الكشف المحمولة”. والتي يمكن لأدواتها الكشف عن ثلاثة فيروسات تاجية والتمييز بينها في غضون ساعتين فقط. وقد تشمل الجهود التكنولوجية طويلة المدى في نهاية المطاف العلاجات الدوائية والتطعيمات.
والمطمئن في الأمر؛ أن فرص احتواء فيروس كورونا المستجد عالية. إذا كان بإمكان مسؤولي الصحة تقليل انتقال الفيروس من خلال التغييرات في السلوك أو من خلال التكنولوجيا، فقد نصل إلى الاستئصال كما هو ملاحظ عالمياً في السارس وعلى الأقل محلياً في الإيبولا.
ولكن إذا استمر الفيروس في الانتشار بمعدله الحالي؛ أو بمعدل أعلى من خلال تطوره؛ فقد يظل الفيروس التاجي الجديد معنا إلى أجل غير مسمى. وسينضم الفيروس بعد ذلك إلى قائمة الفيروسات الدائمة التي تراكمت على مدى آلاف السنين من الحيوانات التي اصطادها الناس أو دجّنوها. فقد يتطلب الأمر، إجمالاً، مجموعة من التغييرات في السلوك الفردي، والاستثمار في الصحة العامة في الخارج، وتطوير تقنيات جديدة حتى ينتهي التفشي الجديد بالسلام والأمان.
ولنعتبر مثل هذه العادات “اللاتلامسية” واعتياد النظافة والتطهير من أولويات ثقافتنا الحضارية المستجدة، ليس إلا، ومع الوقت سنألفها ونعتاد عليها؛ حتى تصبح جزءً من روتيننا اليومي، وهي في كل الأحوال عادات محمودة.

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى